"الجنوب الأميركي": عن بقاء إرث جيم كرو العنصري
هُزِم نظام التفوق الأبيض في أميركا، لكنه ترك ذلك النصرُ النظامَ الطبقي قويَّ الأساس من دون تغيير، ومن الناحية العملية أكده.
في الجنوب الخاضع لقوانين جيم كرو (القوانين التي شرّعت التمييز العنصري هناك)، "يمكن لإيماءةٍ أن تفجّر مدينةً"، كتب جيمس بالدوين عام 1960. وفي مطار تالاهاسي في الفترة ذاتها، راقب بالدوين امرأة بيضاء وهي تبتسم للسائق الأسود الذي جاء لاستقبالها. "لو أنها كانت تبتسم لي بتلك الطريقة، أتوقع أني كنت سأصافحها"، كتب بالدوين. غير أن مثل ذلك الفعل، بالطبع، كان ليسبّب كارثة. فالرجال السود لا يصافحون أيادي النساء البيض؛ إن فعلاً مثل هذا كفيلٌ بأن يقلب رأساً على عقب "العادات الاجتماعية التقليدية" لجنوب جيم كرو ويهدّد أسسَ ذلك المجتمع.
بعد ستة عقود، يأتي أدولف إل. رييد جونيور ليستكشف ويشرح تلك "العادات" في كتابه "الجنوب: جيم كرو وحيواته بعد الموت"، الصادر باللغة الإنكليزية عن دار فيرسو (Verso)، في الأول من شباط / فبراير عام 2022. الكتاب مبني على ذكريات رييد الشخصية، ممزوجةً بتحليله للحياة اليومية في ظل قوانين جيم كرو، وبرؤاه الحادة والتحريضية إزاء تلك القوانين. رييد مختص في العلوم السياسية ومعروف بتفسيراته الماركسية وجداله الشرس، غير أن هذا نوعٌ مختلف من الكتب.
ولد رييد في نيويورك عام 1947، لكنه أمضى العديد من السنوات المشكّلة لشخصيته في نيو أورلينز وفي باين بلاف (في الجنوب الأميركي). وهو يروي في هذا الكتاب قصصاً عن نشأته تلك وعن الحياة اليومية في الجنوب الخاضع لنظام جيم كرو. كذلك، يلقي الكتابُ الضوءَ على ما يعتبره رييد "خليطاً من الاستمرار والتغيير" في تلك المنطقة؛ رغم أن رييد يميل أكثر إلى جانب التغيير، ويرى أن سقوط قوانين جيم كرو قد غيّر الحياة في الجنوب فعلاً. وإذا كان بعض المراقبين اليوم يميلون إلى النظر إلى المظالم العرقية التي لا تزال متفشية _عنف البيض، السجن الجماعي، الأحياء والمدارس ذات الفصل العنصري، الفقر الشامل، عودة قوانين التصويت التقييدية_ ويدّعون أن القليل قد تغير منذ أيام جيم كرو، فإن رييد يظهر قصور ذلك الاستنتاج.
في واحدة من القصص التي يرويها رييد في هذا الكتاب، والتي هي بالغة التأثير في تكوينه، يتحدث عن سرقته كيساً من رقائق البطاطا من متجر بقالة في نيو أورلينز عندما كان في الصف التاسع. كان ذلك في أواخر عام 1959 أو أوائل عام 1960 (لا يتذكر تماماً)، ورييد، مثل الكثير من الصبية المراهقين، كان في مرحلة تمرد اشتملت على سرقة السلع المعروضة في المتاجر. غير أن مغازلة اللصوصية التافهة تلك كانت قصيرة الأجل. فقد رآه صاحبا المتجر _زوجان أبيضان في الثلاثينيات من عمرهما_ وهو يسرق كيس الرقائق وأخذاه جانباً.
في كتاب "الجنوب: جيم كرو وحيواته بعد الموت"، يتذكر رييد الخوف الذي شعر به عندما قبض الزوجان عليه. فمثل كثير من المراهقين السود الذين نشأوا في ولاية لويزيانا في الستينيات، كانت عائلته والثقافة المحيطة به قد غرّستا فيه الإحساس بخطورة وضعه. إن مجرد اتهامه بفعل إجرامي يمكن أن يرسله إلى إصلاحية الأحداث في مدينة بيكر، أو حتى، أسوأ من ذلك، إلى أنغولا، سجن الولاية المشهور بوحشيته. لكن، من حسن الحظ، اختار الزوجان يومها ألا يبلغا الشرطة. وبدلاً عن ذلك، ألقيا على رييد محاضرة عن مخاطر السرقة وتحذيراً من أن أصحاب المتاجر الآخرين قد لا يكونون بهذا اللطف.
مع هذا، وفقاً لِوجهة نظر رييد، إن قرار صاحبي المتجر أن يطيحا بتقييدات جيم كرو في هذا المثال المحدد لا يظهر إلا القليل عن شخصيتهما العامة. فالزوجان ذاتهما قد يدعمان بحماسة حركة الحقوق المدنية، أو قد يحتجان، بالحماسة ذاتها، ضد حركة إزالة التمييز العنصري من المدارس التي عصفت بنيو أورلينز في وقت لاحق من ذلك العام. "أعرف ما يصنع قصةً رافعةً للمعنويات، لكني لست واهماً"، يكتب رييد، "كل ما أعرفه أنهما لو تصرفا في تلك الظهيرة وفق تعليمات نظام جيم كرو الاجتماعي ولم يرياني كما فعلا، لانتهى بي الأمر في بيكر".
إن هذا التشكيك تجاه السرديات المناهضة للعنصرية، السرديات المُتفائِلة والرافعة للمعنويات، هو ما يجعل رييد شخصية مثيرة للجدل. لقد عارض رييد النظر إلى العرق على أنه بنية ذات أهمية فريدة في ذاتها، أو إلى العنصرية على أنها معطى تاريخي ثابت. هذه "الاختزالية العرقية"، كما يسميها رييد، تقلّل من أهمية الاختلافات الطبقية وتعرقل الاندماجات التي من شأنها أن تجلب مزيداً من الإصلاحات. في السنوات الأخيرة، تصاعدت الآثار السلبية للاختزالية العرقية من قبل بعض مؤسسات النخبة التي جعلت من العرق سلاحاً لزيادة إمكانيات ربحها، وتجنبت السياسات الاقتصادية التي لا تروق لمتبرعيها الأغنياء.
التجارب التي يصفها رييد في هذا الكتاب كانت نواة تكوينه الإيديولوجي. والعيش في ذلك النظام المتناقض _نظام ليس من المفاجئ فيه أن يعامل صاحبُ متجرٍ أبيض مراهقاً أسود بعناية أبوية في أحد الأيام ويقود تظاهرة ضد الدمج في اليوم التالي_ هو ما جعل رييد يعترض على رسم حدٍّ فاصل حاسم بين قوانين جيم كرو ومسائل العدالة العرقية المعاصرة.
لكن، وعلى الرغم من اعتراض رييد على رؤية العنصرية كثابت تاريخي، فهو يرى أن بعض النظم لا تتغير. قبل الانتقال إلى نيو أورلينز، عاش رييد مع والديه في مدينة باين بلاف، وهي المدينة الأقرب لسجن الولاية في كامينز. وقد لاحظ، خلال فترة قوانين جيم كرو، أن السجناء في كامينز يعملون على ذات النحو كما فعل أسلافهم المستَعبَدون(عمل شاق في مزارع تديرها الدولة ومن دون أيّ أجر). يتذكر رييد مروره بهذا السجن بعد أربعين سنة:
"في ذلك اليوم من عام 1993، وعبر سخونة البخار المتصاعد من الأرض المعفّرة، كان بوسعنا أن نواكب في البعيد مجموعاتِ السجناء بزيّهم الأبيض الموحد وهم يصطفون ويعملون، مراقَبين من قبل حراس يمتطون أحصنةً ويحملون بنادق؛ تماماً كما كانوا ليبدوا قبل أربعة عقود".
يفتتح رييد كتابه "الجنوب: جيم كرو وحيواته بعد الموت" برؤى ثاقبة حول طبيعة نظام جيم كرو. ويرى أن ربط ذلك النظام بصورة "الشريف المتزمت" ولافتات "الملوّنين فقط"، كما يفعل الكثير من الأميركيين اليوم، يسيء فهم هذا الجزء من تاريخ الأمة. وأن التركيز على الصور المألوفة يختزل التمييز العنصري إلى "مصنوعاته الأكثر سطحية، مثل اختزالِ جبلٍ جليدي إلى قمته الظاهرة".
تتحدى تلك الاستعارة القارئ وتدعوه أن ينتبه إلى ما يقبع في الأسفل؛ أنظمة الاستغلال الاقتصادي والإرهاب العرقي. مع هذا، يرفض ريد التقليل من شأن "الآليات السطحية نسبياً". فمثل تلك الآليات "لم تكن يوماً أقلّ من مُذلِّة ومُضايقة إلى حد هائل". وقد فهم الجميع أن تلك "النتوءات" كانت "مرتبطة على نحو غير قابل للفصل" بالنظام الأكبر؛ تماماً كما القمة مرتبطة بالـ90% المغمورة من الجبل الجليدي.
قاسى رييد وعائلته تلك الإذلالات. لكن، في نيو أورلينز، المدينة التي كانت كوزموبوليتانيّة نسبياً، كان ثمة لحظات تبدو فيها الحواجز العرقية نفّاذة. يروي رييد، على سبيل المثال، قصة متجر فطائر بينييه كان لا يقدم خدماته إلا للبيض. وعندما كان أفراد عائلة رييد يشعرون بـِ"شهية جماعية" لتلك الفطائر الرائعة، كانوا يقنعون جدته _الوحيدة بينهم التي تبدو وكأنها بيضاء_ أن تذهب وتشتري صندوقاً من الفطائر. وعلى الرغم من "تذمرها"، لم تختبر الجدة أي تجربة مؤلمة عميقة جرّاء فعل "العبور" الزائل هذا.
مع ذلك، قصة الفطائر، والفصلُ الذي يتناول مسألة العبور، هو واحد من الفصول الأقل تأثيراً. يريد رييد أن يقول إن "العبور" (قبول شخص من السود بين البيض) في فترة جيم كرو كان براغماتياً وذرائعياً فحسب، إلا أنه لا يلقي بالاً لأي من الأعمال الأخيرة التي تتناول الموضوع؛ على سبيل المثال كتاب أليسون هوبز "منفى مختار". هوبز، على عكس رييد، ترى أن العبور كان في أساسه ينطوي على "خسارة ما تعبر مبتعداً عنه".
واحد من التغييرات المصيرية التي يتناولها رييد في كتابه هو إزالة النُصُب التذكارية الكونفدرالية في نيو أورلينز، مثل التمثال الشاهق للجنرال الكونفدرالي روبرت إي لي الذي ظلّ يشرف على المدينة لأكثر من قرن. عندما عاد رييد إلى نيو أورلينز في ربيع عام 2017، ليكون إلى جانب والدته في أيامها الأخيرة، كان تمثال روبرت إي لي يُزال. تظهر هذه القصة في الكتاب محزنةً ومؤثرة؛ يقاسي رييد ألم موت والدته أثناء مشاهدته رموز التفوق الأبيض وهي تهوي.
لكن ثمة طريقة أخرى للنظر إلى الأمر. عندما قررت نيو أورلينز إزالة تلك النُصُب التي بنيت خلال السنوات الأولى من الفصل العنصري، أشاد كثيرون بالقرار باعتباره إشارة إلى الإطاحة برموز جيم كرو. أما رييد فيتذكر شعوره بالإحباط إزاء هذا المنطق. ففي حين أن النُصُب تعطي قيمة لمرحلةٍ جديرة بالازدراء، فإن إزالتها كانت إجرائية إلى حد كبير. إن ذلك الفعل، يقول رييد، لطّف فكرة نيوليبرالية تقول بالتعددية الثقافية مع إدامته "لنظام اجتماعي قائم على التفاوت الصارم بالنسبة إلى الأغلبية". بالنسبة إلى رييد، التفاوت المبني على أساس طبقي هو الثابت التاريخي، وليس العرق. ففي حين أن النظام القائم على التمييز العنصري طُبِّق على جميع السود، إلا أن آثاره كانت تتباين باختلاف طبقة الشخص.
يبلغ كتاب "الجنوب: جيم كرو وحيواته بعد الموت" أفضله في فصله الأخير، حين يشرح رييد التغييرات، واللاتغييرات، التي خلّفها زوال قوانين جيم كرو. عندما سافر رييد عبر ريف لويزيانا في صيف عام 1993، لاحظ أن الأميركيين الأفارقة قد شغلوا العديد من المناصب المُنتخبة في حين أن "بقايا" من عالم جيم كرو ظلّت ماثلة. والأكثر أهمية من ذلك، أن أعداداً كبيرة من الأميركيين الأفارقة كانوا لا يزالون عالقين في فقر مُدقع. لكنه كان نظاماً اجتماعياً مختلفاً كثيراً عن النظام الذي ساد حتى الستينيات. لقد هُزِم نظام التفوق الأبيض. مع هذا، "ترك ذلك النصرُ النظامَ الطبقي قويَّ الأساس من دون تغيير، ومن الناحية العملية، أكّده". ففي حين أن الطبقة الوسطى من السود صعدت في سنوات ما بعد جيم كرو، ظلّ الفقراء من الأميركيين الأفارقة يعانون.
إن رييد ينظر إلى تاريخ الجنوب باعتباره سلسلةً من التمزقات؛ وليس "قوساً غير متقطّعٍ من التبعية العرقية مستمرٍّ من فترة الفصل العنصري، الحرب الأهلية، أو العبودية". كما إن لديه القليل من التقبّل إزاء بساطة "قطبية عنصرية/مناهضة العنصرية". فمثل ذلك المنظور، يكتب رييد، "يسطّح التاريخ والسياق، ويختزل السياسات إلى محض مبارزة ثابتة بين الأسود والأبيض".
علاوة على ذلك، الذكريات في هذا الكتاب معزَّزةٌ بحسٍّ من الإلحاحية. فمع كل سنة تمرّ، يقلّ عدد الأميركيين السود الذين يتذكرون تجربة العيش في ظل قوانين جيم كرو. وسيختفي قريباً آخر جيل يمتلك ذاكرة حية عن تلك الفترة، مخلّفين وراءهم ذاكرة جمعية عن فظائع الفصل العنصري، إنما ليس عن ذكريات الحياة اليومية. في كتاب "الجنوب: جيم كرو وحيواته بعد الموت"، يسعى أدولف إل. رييد جونيور إلى الحفاظ على أصداء تلك الذكريات، مُقتدياً بتاريخ طويل من المحاولات لفهم ندبات التاريخ من خلال التجربة الشخصية. وبفضل تاريخ رييد الشخصي وفطنته السياسية، نرى التفرقة العنصرية في كتابه لا من خلال إطارها القانوني أو نظم القوة فيها، بل من خلال الكيفية التي شكّلت بها تلك النظمُ التفاعلاتِ اليومية، الحيوات اليومية، وطموح الناس العاديين.
مع ذلك، لا يزعم رييد الذي يُعتبَر "أعظم منظّرٍ ديمقراطي في جيله" أنه يقوم بدور المتحدث باسم ذلك الجيل: "لا أدّعي العمومية، ناهيك عن العالمية"، يكتب رييد. وبحفر منجم ذكرياته حول الفصل العنصري، يتجنب رييد رؤية الماضي على أنه كناية عامة للحاضر. والبورتريه الذي يرسمه ليس سرديةَ تطورٍ مباشر نحو مستقبل ما بعد العنصرية، وليس كذلك ندباً متشائماً يرى الاضطهاد العرقي قوةً لا تتغير. بالأحرى، هذا البورتريه هو استكشافٌ سرديٌّ للحظة واحدة في التاريخ الأميركي، كما اختبرها شخص عاش حقاً فيها.
ترجمة وإعداد: سارة حبيب