الجسور أهم من التاريخ.. الجرافات تهشّم عظام رموز مصر وأعلامها

ملوك وأمراء ورموز إسلامية وتاريخية تهدم الجرافات قبورهم في القاهرة لتشييد جسور في العاصمة المصرية. ما الذي يجري؟ وأين تكمن خطورته؟

في مشهد يبدو هوليوودياً تقوم أسنان الجرافات في مصر بتهشيم عظام الموتى وتدهس مقابر أعلام الفكر والثقافة والفن والأدب ورموز إسلامية وتراثية غير عابئة بالتاريخ أو صُنّاعه، في بلد لم تعرف البشرية تاريخ فراعنته وملوكهم، إلا من خلال مقابرهم ومعابدهم. إذ كان ذلك إحدى الوسائل الرئيسية للتأريخ الحضاري للقاهرة المعروفة بـــ "بلد الألف مئذنة".

هذه الأحداث المتسلسلة منذ العام 2020 ضد مقابر وأضرحة ذات طابع معماري فريد، أثارت غضباً شعبياً عارماً واعتراضات المهتمين وخبراء التراث، وأفزعت أهالي المدفونين، بعد أن أفصحت القاهرة عن خطتها الرامية إلى إزالة نحو 2700 مقبرة.

وتقول السلطات المصرية إن ما يجري يقع في إطار تطوير المنطقة عمرانياً وإنشاء شبكة الطرق السريعة لتحقيق التنمية. لكن ذلك يؤدي حكماً إلى تبدل معالم القاهرة التاريخية، وفي قلبها منطقة المدافن، المعروفة باسم "مدينة الموتى"، المدرجة على لائحة منظمة "اليونيسكو" كموقع تراثي عالمي منذ العام 1979، علماً أن المنظمة العالمية قالت إن ما يجري يعرض المنطقة المذكورة إلى الشطب من قائمة التراث العالمي ونقلها إلى قائمة التراث المعرض للخطر.

الجرافات تدهس تاريخ مصر

تعد المقابر الإسلامية في القاهرة التاريخية من ثاني أقدم المقابر في العالم، ويتميز الكثير منها بقباب تعلو مدافنها، وهي ذات واجهات مزخرفة بنقوش إسلامية، وعبارات كتبها خطّاطو العصور السابقة، كما رسمت عليها نقوش دقيقة تميزها عن غيرها على مستوى العالم. 

وتؤرخ كتب عديدة ـ"مدينة الموتى" في القاهرة بينها "مرشد الزوار إلى قبور الأبرار المسمى الدرّ المنظَّم في زيارة الجبل المقطَّم" لمؤلفه موفق الدين بن عثمان، المتوفى عام 1218، ويتناول فيه جوانب من سيَر أصحاب القبور وكراماتهم، وإشارات تاريخية كالنهاية المأساوية للبعض، وأولهم محمد بن أبي بكر الصديق. 

ويعد الكتاب الصادر عن "الدار المصرية اللبنانية" عام 1995، وثيقة نادرة لقبور صحابة وتابعين وحكام وأولياء وأعلام، كما أنه يبرز كيف رفع المصريون مكانة المقابر إلى مكانة مقدسة وحرصهم على صون التراث ويدين استباحة المقابر وحرمتها. ويعتقد مصريون أن لقب "القاهرة المحروسة" إنما يعود إلى أنها محروسة بأرواح الأولياء، وذلك في امتداد لعقيدة تمثلها "ماعت" إلهة العدل في مصر القديمة، وأمامها يتبرأ المتوفى من 42 خطيئة، إحداها عدم نبش القبور أو الإساءة إلى الموتى.

الباحث في مجال ترميم الآثار، محمود علي، يرى في حديث مع "الميادين الثقافية"، أن "المقابر جزء من النسيج العمراني للقاهرة التاريخية، وكنزٌ أثري روحي، لو تمت رعايته بالترميم والاحترام الكافي لكان منبع إلهام ومصدراً للدخل القومي يفوق عائد السياحة"، مشيراً إلى أن "مدينة الموتى في القاهرة كنزٌ عمراني ومعماري يضم الآلاف من المقابر والشواهد الأثرية بينها أكثر من 1000 ضريح بناها الفاطميون وحدهم لآل البيت، وبخاصة سلالة السيدة فاطمة الزهراء والإمام علي بن أبي طالب".

من الملكية إلى الجمهورية

على مرّ تاريخ مصر الفرعونية كانت المقابر والمعابد شاهدة على التاريخ المعماري والحضاري الممتد لقرون، وجزءاً لا يتجزأ من هوية البلاد. في وقتنا الحاضر كان لرموز ملكية وأعلام الفن والثقافة في مصر الجمهورية، النصيب الأكبر من أعمال التخريب، إذ لم تكتف الجرافات بالفتك وانتهاك حرمة مقابر عوام المصريين، بل لم ترحم تاريخ أعلام البلاد المدفونين في منطقة القاهرة التاريخية. 

هكذا تم تدمير "جبانة المماليك" التي تعود إلى نحو 5 قرون، وشارك في إنشائها المهندس الإيطالي إرنستو فيروتشي، كبير المهندسين في السرايات الملكية المصرية، وصاحب تصميم قصر رأس التين في الإسكندرية وغيره. 

وتحوّل الجرافة، تلك الآلة بعجلاتها الثقيلة، قباباً تاريخية إلى أكوام من الركام. دهست "قبة عبد الحليم باشا" التي تضم رفات العديد من أفراد الأسرة العلوية، مثل الأمير محمد علي حليم، والنبيل عباس إبراهيم حليم، أحد أهم مناصري إنشاء النقابات العمالية في بداية القرن الـ20 والملقب بـ"صديق العمال"، ومدفن عتقاء البرنس إبراهيم حلمي، نجل الخديوي إسماعيل، ومقبرة علي باشا فهمي، كبير ياوران الملك فؤاد الأول، بالإضافة إلى مقابر عدد من الأميرات من الأسرة الملكية في القاهرة قبل ثورة 23 يوليو عام 1952.

أمام تلك الموجة من هدر التراث، فقدت القاهرة المئات من مقابرها وقبابها التاريخية الغنية بالزخارف والنقوش والخط العربي، وجبّانات (مدافن) تعدى عمرها مئات السنين في مشهد لا يقدر قيمة ورمزية المبني في الحيز العمراني للأمم، وأنه مرآة للذاكرة الجمعية، وفق خبراء آثار.

كما امتد هذا العبث إلى مدفن قبة "نام شاز قادين" مستولدة محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة، وهي التي أنجبت منه محمد حليم باشا، الابن الثاني له ووريث عرشه قبل أن يتغير نظام الميراث، كذلك مقبرة محمد راتب باشا، سردار الجيش المصري، وقاسم محمد باشا أول قائد للمحروسة، ومقبرة القائد إسماعيل شيرين،أحد قادة الأسطول الحربي خلال عهد محمد علي باشا وحارب في معركة نفارين البحرية عام 1840 ميلادية.

وضمن الأسرة الملكية كذلك طال الهدم قبر "البرنسيسة كريمة" حفيدة محمد علي باشا، التي توفيت في أيار/مايو 1897، والمدرسة الإمامية التاريخية ومدرسة رابعة العدوية، فضلاً عن حوش يوسف كمال باشا راعي الفنون في مصر في بداية القرن الـ20.

يقول خالد عزب، خبير التراث، لــ "الـميادين الثقافية"، إن "قرار هدم المقابر يرجع إلى أن من بيده القرار لا تتوفر لديه الخبرة للتعامل معها ولا يدرك أهمية التراث بالنسبة إلى تاريخ الأمم وحضارتها"، مضيفاً أن "هناك من ينظر إلى القيمة المالية لأراضي المدافن غير عابئ بالتاريخ والتراث وقيمتهما".

"مدينة الموتى" تتحول إلى ركام

بخلاف باقي دول العالم، تزهو القاهرة بمقابرها، فيطلق عليها "مدينة الموتى" حيث نجد مقابر "البساتين" و"تربة الزعفران" و "البقيع" و"غراس أهل الجنة"، وداخل "مقابر الإمام" أو "السيدة عائشة" ترى قبور الأولياء والعلماء والعامة والملوك والأمراء.

وضمن تلك الجبّانات أيضاً مقابر "باب النصر" التي تعود لمئات السنين، وتضم رفات شيخ المؤرخين والعالم والفقيه تقي الدين المقريزي، والعلامة اللغوي ابن هشام صاحب الألفية في النحو، ومؤسس علم الاجتماع الحديث عبد الرحمن ابن خلدون، الذين ضاعت قبورهم وأزيلت منذ سنوات قليلة بحجة التنظيم والتطوير، ولم يفلت منها سوى ضريح العلامة ابن حجر العسقلاني، وبالقرب منهم دفن العز بن عبد السلام، والليث بن سعد.

يفوق عمر تلك المقبرة عمر القاهرة التي اختطها جوهر الصقلي في 17 شعبان سنة 358 هجرية، ويرجع تاريخها إلى بداية الفتح الإسلامي لمصر بقيادة عمرو بن العاص، الذي دفن فيها ومعه ابنه عبد الله، مع جملة من الصحابة وأولادهم، وعلى رأسهم مسلمة بن مخلد، وعقبة بن عامر، ومحمد بن أبي بكر الصديق، ومعاوية بن خديج.

وعلى صعيد التراث الإسلامي أيضاً، طالت أعمال الهدم ضريح الإمام الشافعي والعلامة والفقيه جلال الدين السيوطي، وقبر الإمام ورش، صاحب "قراءة ورش" القرآنية، ومقام الإمام وكيع، مقرئ الإمام الشافعي، وضريح سيدي القاسم الطيب أبو الأولياء، والإمام الليثي، وقبر "قيثارة السماء" ومرتل القرآن الكريم الشيخ محمد رفعت، كما تم فك 3 مآذن أثرية في "الإمام السيوطي" و"السيدة عائشة" بزعم ترميمها وإعادة تركيبها مرة ثانية.

ووصفت النائبة المصرية مها عبد الناصر، ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، عبر صفحتها على "فيسبوك"، ما حدث بالقول "هدم مثل هذه المعالم يشوه الذاكرة الجماعية للمصريين لأن التراث المعماري هو جزء لا يتجزأ من الهوية المصرية وتاريخها"، مطالبة بمراجعة شاملة لحماية التراث.

الهدم يطال رموز مصر الحديثة

أما أعلام مصر في التاريخ الحديث ممن امتدت يد التخريب إلى مدافنهم، مقبرة شاعر السيف والقلم محمود سامي البارودي، ومدفن عميد الأدب العربي طه حسين (1889 - 1973)، الذي نجا بأعجوبة بعد أن هددت أسرته بنقل رفاته إلى فرنسا فصمد وحيداً بينما تمّت إزالة ما يحيط به. لكن هذه الحملات فشلت في إنقاذ مدفن الكاتب يحيى حقّي (1905- 1992) الذي هُدم بالفعل. كما لم تنج مقبرة عبد الخالق باشا ثروت، والشمسي باشا، وعثمان مصطفى، ومحمد نسيم توفيق، فضلاً عن مقابر فنانين مشاهير من بينهم يوسف وهبي، وأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وأسمهان، وفريد الأطرش، وهند رستم، وصلاح ذو الفقار.

ولم يتوقف هدير الجرافات وضجيجها إلى ذلك، بل أزال مقبرة "شاعر النيل" حافظ إبراهيم في أيار/مايو 2023، وواجهة مدفن إبراهيم النبراوي، أكبر أطباء عصره في مصر، كذلك مقبرة الدكتور يوسف رشاد طبيب وصديق الملك فاروق، وجبّانة الدكتور علي باشا إبراهيم أول عميد مصري لكلية ومستشفى القصر العيني وأول رئيس مصري لجامعة القاهرة، ومقبرة السياسي بهي الدين بركات، والمؤرخ أحمد باشا شفيق صاحب الحوليات المشهورة، وحوش ثابت وهو ملك لأسرة السيدة سوزان ثابت زوجة الرئيس الأسبق حسني مبارك. 

يقول استشاري الحفاظ على التراث، وخبير مركز التراث العالمي في منظمة "اليونيسكو"، طارق المري، إنه "كان من الأفضل تغيير مسار شبكة الطرق والإبقاء على مقابر القاهرة التاريخية التي تضم رفات أعلام الثقافة والفكر والفن".

ويشير في مقابلة مع "الـميادين الثقافية"، إلى أن "الجبّانات الإسلامية في القاهرة التاريخية (السيدة نفيسة والإمام الشافعي وصحراء المماليك) هي ثاني أقدم الجبانات في العالم، تسبقها فقط مدافن البقيع في السعودية، وكان من الممكن أن تقوم الحكومة بتطويرها كأحد معالم القاهرة التاريخية إلى مزارات سياحية مثلما حدث في فرنسا وبريطانيا وليس هدمها وقتل التراث". 

"سيرة القاهرة" توثق ذاكرة المقابر

للحفاظ على هذا التراث من الاندثار، وثقت مبادرة مستقلة تسمى "سيرة القاهرة" تاريخ مقابر القاهرة خصوصاً "مقابر الإمام الشافعي" عبر فيلم وثائقي بعنوان "مجاذيب القرافة".

ويسرد هذا الفيلم الذي شارك فيه نحو 11 باحثاً ومختصاً بالتراث، خلال 45 دقيقة، نشأة مقابر الإمام الشافعي وتاريخها، ومُكوناتها الفنية والجمالية والعمرانية، بالإضافة إلى تاريخ الشخصيات المدفونة فيها، لتنتهي لقطات الفيلم بمرثية داخل ضريح الإمام الشافعي بأنشودة "أنسيت أن الموت يأتي؟ فاجمعي يا نفس من طيبة وإحسان".

وتقول هبة رؤوف عزت، أستاذة العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، إن ما يجري "يسمونه في الدراسات التاريخية وتراث الفنون أيكونوكلازم. أي محو الرموز البصرية لعصر سابق لتكريس شرعية صور ورمزيات جديدة لعصر حالي، أو رفع ذاكرة فوق أخرى في ثقافة متعددة التواريخ". 

وتضيف عزت أن "المدن العريقة أقرب إلى رَقّ كُتبت عليه نصوص بعضها فوق بعض، وأن الحجر يستمد قيمته من دلالته على التاريخ ويعكس تصورات وعقائد ومواريث وهو شاهد على عصور كاملة ووجود أئمة وعلماء ورواد ورموز، وقرار الهدم لمحو معالم وتواريخ وصور قديمة لصالح أخرى جديدة يريد النظام ترسيخها في مصر".

"مقبرة الخالدين" لعظماء ورموز مصر

تلزم المادة 49 من الدستور المصري، الدولة بحماية الآثار والحفاظ عليها، ورعاية مناطقها، وصيانتها، وترميمها، واسترداد ما استولي عليه منها، وتنظيم التنقيب عنها والإشراف عليه. ويحظر إهداء أو مبادلة أي شيء منها والاعتداء عليها والاتجار فيها جريمة لا تسقط بالتقادم.

وتقول السلطات المصرية إن تشييد الطرق والجسور أمر لا مفر منه لتنمية العاصمة، التي تخنقها الكثافة السكانية، كما يكرر مسؤولون حكوميون أن تلك المقابر والقباب ليست مسجلة بقوائم الآثار المصرية.

وبعد موجة من الانتقادات وانتشار صور الهدم، ودعاوى قضائية رفعها "المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، و"جمعية المعماريين المصريين"، وطلبات إحاطة أمام البرلمان، أصدر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في نهاية تشرين الأول/أكتوبر الماضي، توجيهاً يقضي بإنشاء "مقبرة للخالدين" لتضمّ رفات عظماء ورموز مصر من ذوي الإسهامات البارزة في البلاد، مؤكداً "حرص وتقدير مصر لرموزها التاريخية وتراثها العريق، وأن مقبرة الخالدين ستكون صرحاً يضم رفات الرموز المصرية، ومتحفاً لأعمالهم".

ورافقت حديث السيسي تصريحات رئيس الحكومة مصطفى مدبولي، حيث قال إن "أي خطأ أو تجاوز في هدم المقابر لن يتكرر"، مشيراً إلى أن "أعمال الهدم بمنطقة الإمام الشافعي وغيرها توقفت، وأن الدولة تحترم المباني ذات القيمة التراثية أو تمس أي مبنى ذي قيمة فنية أو معمارية".

من جانبه أشاد أحمد عامر، الخبير الأثري بقرار إنشاء "مقبرة الخالدين"، موضحاً في حديث مع "الـميادين الثقافية"، أن "الدولة المصرية تحرص دائماً على صون التراث والآثار لأنه جزء من هويتنا الحضارية والثقافية، كما أن مصر تبذل أقصى الجهود للحفاظ على المناطق الآثرية والتاريخية من خلال أعمال الترميم والتطوير بالتعاون مع الجهات الدولية والأجنبية".

وأضاف أن "الدولة نفذت مشروعات عدة لمواقع تاريخية. ومنذ عام 2016 تم تطوير شارع المعز وباب زويلة وباب النصر وباب الفتوح وقبة الغوري وغيرها من المواقع التراثية بهدف الحفاظ على هوية وذاكرة القاهرة التاريخية".