مستقبل بن غفير السياسي في مهب الريح
يغامر بن غفير بإقالته من الحكومة، لأن الأعراف السياسية في الكيان الإسرائيلي أن تصويت وزير في الحكومة ضد موازنة الدولة يعد بمنزلة حجب ثقة، ويفتح الباب لإقالته من الحكومة.
جاء تصويت حزب القوة اليهودية (عوتسما يهوديت)؛ بزعامة وزير "الأمن القومي" إيتمار بن غفير، ضد شركائه في الائتلاف اليميني الحاكم في "تل أبيب"، في إقرار الموازنة السنوية عبر الكنيست (البرلمان)، ليخلق شرخاً بينه وبين الحكومة بزعامة بنيامين نتنياهو، وهو المتهم طوال الوقت من المعارضة والحكومة على السواء بممارسات صبيانية.
يطلق بن غفير تهديدات روتينية بالاستقالة من الحكومة، بهدف ليّ ذراع نتنياهو والضغط عليه مستغلاً مقاعد حزبه في الكنيست، ومعظم هذه التهديدات متصل بخلافات سياسية على خلفية مفاوضات صفقة الأسرى في غزة، ولكن وتيرتها تصاعدت هذه المرة منذ بدأت المستشارة القضائية للحكومة؛ غالي بهاراف ميارا، تحقيقات خاصة ضد بن غفير، بتهمة تسييس الترقيات في جهاز الشرطة والتدخل المباشر في عملها بما يخالف صلاحياته، والمستشارة بالأساس تعارض خطط إصلاح النظام القضائي الإسرائيلي التي يسعى لها نتنياهو، كما إنها تدعم تحقيقاً مستقلاً في تعامل الحكومة مع "طوفان الأقصى"، ما أدى إلى تصاعد الخلاف بين الحكومة والمستشارة، وقيام الحكومة بعرض بدء إجراءات إقالتها على الكنيست، في وقت يلح فيه بن غفير على إدراج الإقالة فوراً على جدول أعمال الحكومة.
وأمام احتمال عدم نجاح إقالة المستشارة، يعمل الائتلاف الحكومي على الترويج لخطوة أخرى بديلة من شأنها أن تؤدي إلى تقسيم دور المستشارة القانونية للحكومة، بحيث يتم تجريدها من صلاحياتها كرئيسة للنيابة العامة، لتبقى مستشاراً قانونياً للحكومة، وهي خطة يتصدرها وزير الخارجية جدعون ساعر، الذي خطط بنفسه للترويج لتقسيم المنصب، خلال فترة توليه منصب وزير القضاء، ولكن بن غفير سارع إلى تنفيذ تهديداته بتصويت أعضاء حزبه الستة ضد الموازنة في القراءتين الأولى والثانية، فيما هو شخصياً اختار الامتناع عن التصويت.
وعلى الرغم من تصويت حزب بن غفير ضد الموازنة، فقد صادق الكنيست، بالقراءتين الأولى والثانية، على قانون موازنة عام 2025، وقالت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية إن المصادقة على قانون موازنة 2025 في القراءة الأولى بالكنيست، تمت بأغلبية 58 مؤيداً (من أصل 120 بالكنيست)، مقابل 53 معارضاً، فيما تمت المصادقة بالقراءة الثانية بأغلبية 59 مؤيداً مقابل 57 معارضاً، وأكد وزير مالية حكومة الاحتلال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، وهو حليف بن غفير الائتلافي، أن الحكومة ستمرر الموازنة، حتى من دون إيتمار بن غفير وأصحابه الذين يزعزعون استقرار الحكومة وموازنة "الدولة" في فترة حرب، لأغراض سياسية ضيقة.
يغامر بن غفير بإقالته من الحكومة، لأن الأعراف السياسية في الكيان الإسرائيلي أن تصويت وزير في الحكومة ضد موازنة الدولة يعد بمنزلة حجب ثقة، ويفتح الباب لإقالته من الحكومة، فيما نقلت القناة الـ13 العبرية عن مسؤول كبير في حزب الليكود أن "وزير التيك توك بن غفير قريب من أن يصبح عضواً صغيراً في صفوف المعارضة"، في وقت اتهم فيه بن غفير حليفه سموتريتش، بأنه "يميني في الغرف المغلقة" بينما يعمل فعلياً كـ"طوق نجاة" للمستشارة القضائية، مشدداً على أن حزبه لن يدعم ميزانية "الدولة" من دون إقالتها، وأضاف أنه "لا معنى لإقرار ميزانية من دون إقالة المستشارة، نحن هنا لنحكم".
استبق بن غفير التطورات السياسية بشأن الحرب على غزة، وفي الوقت ذاته هو يخلط بين الاعتبارات المهنية والقانونية، ويدخل في بازار المساومات السياسية، ولو على حساب استقرار حكومته القلقة من تطورات الحرب، ما جعل أقرب المقربين إليه يتهمه أنه اختار لعب سياسة صبيانية تهدد بإسقاط حكومة اليمين قبل لحظات من عودة ترامب المنتظرة لدعم سياسات اليمين.
تأتي التطورات السياسية الكبرى وفق مزاج نتنياهو السياسي، على الرغم من الضغوطات المتوالية على أكثر من صعيد، ففي الداخل هناك من يتربص خصوصاً مع الجرح الغائر في قضية الأسرى، وفي الخارج عزلة دولية تتصاعد، فيما ميدان غزة يقتل ضباط "الجيش" وجنوده، مع انسداد في أفق تحقيق أهداف الحرب على غزة، ولكن فوز ترامب في زعامة أميركا مع سقوط النظام السوري ووقف إطلاق النار الهش مع لبنان، خاصة مع نجاح كثير من عمليات الاغتيال ضد المقاومة ما رفع حظوظ نتنياهو بالجملة، وبالذات على الصعيد الداخلي، ما يجعل مراهقات بن غفير لعباً خارج حلبة الميدان، ولهواً سياسياً في الوقت الضائع، في ظل عدم قدرته على تهديد أغلبية الحكومة داخل الكنيست بعد عودة حزب جدعون ساعر.
تأتي الرياح على غير ما تشتهي سفن بن غفير، وهي رياح عاتية لن يصمد في وجهها طويلاً نظراً لمزاجه غير المتزن، وهو الذي ينتمي فكرياً وسياسياً إلى توجهات سموتريتش ذاتها، ولكن الفارق بين جنون تطرفهما الديني، يظهر على المستوى الشخصي، وليس السياسي أو الأيديولوجي لصالح الأخير، وهو ما يجعل المواجهة بينهما عاصفة، وبالتأكيد ستأخذ أضعفهما اتزاناً، وهنا تأتي توجهات نتنياهو للاختيار بين أحدهما، فما زال في جعبته الكثير من الوحشية واغتنام الفرص السياسية الدولية والإقليمية، وهو ما زال بحاجة إلى الغلاة من الصهاينة مع مراعاة الظروف الناشئة، والضغط المتصاعد في قضية الأسرى.
وقع بن غفير ضحية تسرعه، وهو ما يحتاجه نتنياهو ليقدمه على قربان المستشارة القضائية، على الرغم من الخلاف الحاد معها، خصوصاً أنه قد لا ينجح في عزلها، ولكن يمكنه عزل بن غفير بسهولة بعد تصويت حزبه ضد الحكومة، في وقت لم يعد له ضرورة قصوى في تحصيل الأغلبية البرلمانية، مع تصاعد حدّة تهديداته ضد الحكومة والبدء بتنفيذها الفعلي، مع السمعة السيئة التي يسببها لـ"إسرائيل" في المحافل الدولية والعلاقة مع أوروبا وحتى أميركا، لذا فإن الخلاص منه بات مزاجاً عاماً ملحاً في "إسرائيل"، وتطبيقه ليس سوى مسألة وقت، مع احتمال استغلال هذه الإقالة المتوقعة لصالح أجندات إسرائيلية متعددة في الداخل والخارج.