وكر الجواسيس
ما طرأ على المشروع الأميركي ببساطة هو محاولة البحث عن غرفة عمليات جديدة بعد الفشل في تقدم المشروع الأميركي في العراق.
لطالما روّج الإعلام الغربي والعربي لنظرية الانسحاب الأميركي من المنطقة، وإعادة التموضع في بحر الصين الجنوبي لمواجهة الصين، والاقتراب من الحدود الروسية عبر أوكرانيا. ويستدلّ هؤلاء في ذلك (أو يُطلب منهم الاستدلال) على الانسحاب المفاجئ من أفغانستان والانسحاب من العراق. ويبقى السؤال: هل انسحبت الولايات المتحدة من المنطقة حقاً؟
إذا ما نظرنا إلى خارطة توزع القوات الأميركية في المنطقة، فإننا لا نلاحظ ذلك التغير الذي يروّج له التابعون، فالانسحاب من أفغانستان جاء بسبب الخسائر الفادحة التي تعرَّضت لها الولايات المتحدة فيها، من دون تحقيق نتائج ملموسة على مستوى المشروع الكبير. أما الانسحاب من العراق، والذي تم التوافق على إجرائه بين إدارة بايدن ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، فلم يتعدَّ حدود الأوراق التي تم التوقيع عليها.
من الناحية العملية، ما زالت القوات الأميركية في العراق تمارس مهامها التخريبية وتنشر الفتنة من دون الانسحاب. كما أنَّ القوات الأميركية لا تزال موجودة، وبكثافة، في دول الخليج، وهي تدعم كذلك القوات السعودية في الحرب على اليمن لوجستياً وعملياتياً.
ما طرأ على المشروع الأميركي ببساطة هو محاولة البحث عن غرفة عمليات جديدة بعد الفشل في تقدم المشروع الأميركي في العراق. أولى الخطوات التي نفَّذتها الولايات المتحدة في العراق بعد احتلاله في العام 2003 هي حلّ الجيش العراقي والقوى الأمنية والعسكرية بأمر من بول بريمر.
وقد جاءت هذه الخطوة في سياق تحويل العراق إلى دولة يمزّقها التشرذم الطائفيّ وتدمّرها حرب الإخوة بين بعضهم البعض. وبعد الفشل الذريع للاحتلال الأميركي بسبب مقاومة الشعب العراقي وانتصاره على الحرب الطائفية وحركات الإرهاب، لم تعد لغرفة العمليات الأميركية أي فاعلية تُذكر، بل أصبحت عبئاً على القوة الناعمة التي تروّج لها الولايات المتحدة، بعد أن انهالت الصواريخ الإيرانية على رؤوس الجنود الأميركيين في قاعدة "عين الأسد"، انتقاماً لسليماني والمهندس.
إنَّ مشروع البحث عن غرفة عمليات بديلة بدأ منذ سنوات، ودخل مرحلة التنفيذ منذ العام 2018. لقد وقع الخيار على لبنان بوصفه ذا موقع استراتيجي قريب من فلسطين المحتلة. بدأت العملية من خلال قطع الإمدادات المالية من بلدان الخليج، من خلال الضغط عليها لسحب استثماراتها منه، ثم جاء تفجير بيروت (الذي تم تفجيره بطريقة مشابهة لما حدث في مرفأ اللاذقية). وبذلك، تم تجويع اللبنانيين وتهديدهم بالحرب الأهلية بين الفينة والأخرى من بعض الأحزاب الداخلية المتعطّشة إلى دماء الآخر اللبناني.
ليست مصادفة أبداً أن تبلغ كلفة إنشاء السفارة الأميركية الجديدة في لبنان (أو المدينة الأميركية بسبب امتدادها على مساحة 180.6 ألف متر مربع) ضعف كلفة السفارة الأميركية في بغداد، بحيث ستصل إلى حوالى 1.2 مليار دولار أميركي، وهي تعد السفارة الأكبر في منطقة الشرق الأوسط على الإطلاق.
في الجانب الداخلي اللبناني، إنّ ما تمارسه السفيرة الأميركية دوروثي شيا في لبنان يشبه إلى حد بعيد الدور الذي أدّاه بول بريمر ذات يوم في العراق، فهي من حيث المبدأ لم تحلّ الجيش اللبناني، ولكنها ربطته ربطاً عضوياً بالمساعدات الأميركية التي تقتصر على الأطعمة والمصاريف الثانوية، من دون تقديم أي معدات عسكرية، ولو بدائية، وذلك كله لإخراجه من معادلة الصراع مع "إسرائيل"، وتحويله إلى مجرد عناصر شبيهة بعناصر الأمن لحماية الأمن الداخلي في لبنان.
ومن دون الدخول في نظرية المؤامرة (وإن كانت هذه المؤامرة موجودة)، فالسّفيرة تعمل ليلاً نهاراً على تعزيز دور أمراء الحرب السابقين، من خلال دعمهم بالمال واستثمارهم في المجال الاستخباراتي، كما تعمل على إظهار قوى جديدة في الساحة اللبنانية، متمثّلة بمنظمات المجتمع المدني.
لقد تركت منظّمات المجتمع المدني العمل المدني، وتحوَّلت إلى منسّقيات للحملات الانتخابية. هذا الفعل الدعائي لا يعتبر عيباً إذا ما نُظر إليه بشكل مجرّد، ولكنَّ هذه المنظمات والتجمعات نسيت وظيفتها الأساسية (والتي عادةً ما تكون محور عمل منظمات المجتمع المدني خارج لبنان) في حفظ حرية التعبير والشفافية ودعم حركات التحرر.
لقد فشلت في تحقيق الوظائف المحورية الثلاث، فلم تدافع عن حرية الرأي في قضية الوزير جورج قرداحي مع السعودية، ولم تتمتّع بالشفافية من حيث الكشف عن مصادر التمويل الأميركية - الخليجية (إذا ما قرَّر أحد أن يتّهم حزب الله بتلقّي دعم إيراني، فالحزب هو أحد أكثر المكونات اللبنانية شفافية من حيث تصريحه عن مصادر تمويله الإيرانية بصورة واضحة؛ هذا التمويل الذي يأتي في سياق مقاومة "إسرائيل" فحسب)، كما فشلت في الوظيفة الثالثة، وهي دعم حركات التحرّر، فلم نسمع منها كلمة واحدة بحقّ آخر حركات التحرر الوطنية في العالم، ونقصد هنا مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي.
يبدو أنَّ لبنان في طريقه إلى التحوّل إلى غرفة عمليات أميركية لدعم "إسرائيل" من جهة، ومواجهة روسيا وإيران في سوريا، والاستمرار في كبح جماح تركيا من جهة ثانية، وبصورة عامة عدم السماح لأيِّ لاعب إقليمي بالظهور ومنافسة "إسرائيل".
تُظهر صور الأقمار الصّناعية أنَّ مخطّط السفارة يتضمّن بناء 5 طوابق تحت الأرض، فيما يبدو أنّ هذه الأماكن السرية قد تتحوَّل إلى غوانتنامو مصغّر في لبنان. ختاماً، ما يمكن استخلاصه من كلِّ هذه المبالغ والجهود لتحويل لبنان إلى غرفة قيادة عمليات هو أنَّه مقبل على أيام عصيبة ستكون أسوأ مما هي عليه اليوم، والله أعلم.