هل يصحّح لولا دا سيلفا أخطاء الماضي؟

أكبر خطأ للقوى اليسارية، وخصوصاً تلك التي تصل إلى الحكم، أنها تفقد تدريجياً هُويتها الطبقية وتتحوَّل إلى سمسار يسوّق للسياسات الاقتصادية الليبرالية بين الفقراء.

  • هل يصحّح لولا دا سيلفا أخطاء الماضي؟
    هل يصحّح لولا دا سيلفا أخطاء الماضي؟

بفوز الرئيس لولا دا سيلفا في انتخابات 2021، يعود اليسار البرازيلي، ممثلاً بحزب العمال، إلى الحكم للمرة الخامسة. كان فوز دا سيلفا صعباً مقارنة بالتوقعات، إذ فاز في الجولة الثانية بنسبة 50.9% من الأصوات، علماً أنه فاز في رئاسته الأولى عام 2002 بمجموع 60% من الأصوات.

بعيداً من المؤامرة اليمينيّة التي أسقطت الرئيسة اليسارية ديلما روسيف عام 2016، وسجنت لولا دا سيلفا نفسه لمدة عام ونصف عام بتهمة ملفّقة، كما ظهر لاحقاً، علينا أن نتوقف عند حقيقة مفادها أنَّ اليمين المتطرف المعادي لمصالح الفقراء، استطاع الحصول على أصوات 49% من البرازيليين، وهي ليست المرة الأولى، فقد حصل على النسبة نفسها في مواجهة ديلما روسيف في انتخابات عام 2014.

هذا الأمر يجعلنا نقف أمام حقيقة تعاكس توقعاتنا وآمالنا. الجماهير تصوت ضد اليسار، ويمكن أن تدفعه إلى خسارة الانتخابات في المرة القادمة، فأين يكمن الخلل؟ وهل فشل حزب العمال في تحقيق الوعود التي قدمها للجماهير؟

تقول الأرقام إنَّ حزب العمال البرازيلي حقق ما يشبه المعجزات للفقراء، فقد انخفضت نسبة الفقر من 25% عام 2003 في بداية حكم حزب العمال إلى 9% بحلول عام 2012، وقامت الحكومة برفع الحد الأدنى للأجور، وبذلت جهوداً في مكافحة الأمية، من خلال برنامج "سياسة الأسرة" الذي منح كل أسرة حداً أدنى من الدخل بلغ 160 دولاراً شهرياً شرط إبقاء أبنائهم في المدارس، وقدم فرصاً لتدريس الفقراء وذوي البشرة السمراء من خلال نظام الحصص والمنح الدراسية، وقام ببناء جامعات لهم.

صعود هؤلاء الفقراء إلى الطبقة الوسطى شكل تهديداً مباشراً للأخيرة، فهؤلاء الفقراء أصبحوا منافسين حقيقيين لأعمالها في مجالات تجارة التجزئة والبناء، إضافةً إلى أنَّ وضع حد أدنى من الأجور خفض أرباح أصحاب المحال التجارية والشركات المتوسطة، وأصبح المتعلمون من أبناء الفقراء منافسين على الوظائف في الشركات والبنوك.

يُضاف إلى كلِّ ما سبق أنَّ هذه الطبقة الوسطى تتميز بانتشار المحافظين اليمينيين والتوجهات العنصرية فيها. لهذه الأسباب مجتمعة، انحازت إلى مصالحها الطبقية كبرجوازية صغيرة، وأصبحت معادية لحزب العمال وسياساته.

في ظل التشظي السياسي والحزبي في المجتمع البرازيلي والسيطرة التاريخية للطبقات الغنية، لم يرغب حزب العمال الحاكم في التسبب بالرعب للطبقات المسيطرة. لذلك، لم يقترب من الشركات الكبرى المتحكمة في الزراعة، ولم يحاول تطبيق سياسات إصلاح زراعي أو تحديد سقف للملكية، ولم يلجأ إلى أي سياسات تأميمية، وتعامل بتسامح مع البنوك، وقام بالاقتراض منها لتطبيق "سياسة الأسرة"، وهو الأمر الذي كان المسمار الأول في نعش حكومة حزب العمال برئاسة ديلما روسيف.

أدى توسع حجم الطبقة الوسطى إلى زيادة حجم الواردات الاستهلاكية والضغط على ميزان المدفوعات وزيادة حجم النفقات الحكومية على حجم الإيرادات. أُضيفت إلى ما سبق مجموعة من القرارات التي اتُخذت بضغط من المراكز المالية، مثل استضافة الألعاب الأولمبية عام 2016 في ريو دي جانيرو، التي تجاوزت تكاليفها 12 مليار يورو، في الوقت الَّذي كانت آثار الأزمة الاقتصادية تظهر بوضوح في الاقتصاد البرازيلي.

اتخذ حزب العمال موقفاً براغماتياً من الفساد السياسي والإداري للطبقة السياسية بهدف الاستمرار في السلطة بأيِّ ثمن. كانت فضيحة شراء أصوات النواب في الكونغرس البرازيلي عام 2005 فرصة للحزب لضرب الفساد الضارب في أعماق الممارسات السياسية لهذه الطبقة، وبناء نظام سياسي جديد أكثر عدالةً وأكثر مناعةً تجاه الفاسدين، لكنه اختار التغاضي عن تلك الفضيحة التي كان يمكن أن تؤدي إلى هزة سياسية كبيرة في البلاد، ودفع الثمن غالياً عندما قامت الطبقة السياسية الحاكمة برئاسة رئيس مجلس الشيوخ المتهم بالفساد بإقالة الرئيسة ديلما روسيف وإبعاد الحزب من الحكم. 

كانت موافقة الحزب على الالتزام بـ "إجماع واشنطن" (الليبرالية الكاملة) أهم ثغرة في سياسته الاقتصادية، فقد عبّرت عن تراجعه عن التزاماته الوطنية، سواء تجاه البلاد ككل أو تجاه الطبقات الكادحة، واستسلامه للسياسات الاقتصادية الليبرالية، وتحويل الإنجازات التي حققها إلى إصلاحات ذات سقف محدود. وأي محاولة لتجاوز هذا السقف كانت تعني سقوط الحزب على يد الجماهير التي أخذ بيدها.

إنّ سياسات من قبيل منح الأسواق حرية تحديد الأسعار، بحيث تكون أعلى من نسبة التضخم، وتحرير قطاع التجارة مع التركيز على مبدأ القضاء على القيود الكمية، كمنح التراخيص والامتيازات، وخصخصة مؤسسات الدولة، ومراعاة قوانين تملّك الأراضي التي نص عليها إجماع واشنطن، أصابت كلّ الخطوات والإصلاحات التي قام بها الحزب في مقتل، فما كادت حكومة روسيف تصدر قراراً برفع أسعار تذاكر الحافلات حتى خرج مئات الآلاف من البرازيليين في تظاهرات ضده.

رأينا في الشارع وحدةً بين سيدات الطبقتين الوسطى والغنية اللواتي قرعن على الأواني المنزلية احتجاجاً على رفع الأجور الذي منعهن من استخدام عاملات بأجور زهيدة، والنساء الفقيرات اللواتي لا يملكن أجور وسائل النقل للذهاب إلى العمل أو لإرسال أبنائهن إلى المدارس.

ما حدث في البرازيل وغيرها يعبر عمّا نصطلح على تسميته "أزمة اليسار". بدأت الأزمة (إذا قبلنا بوجودها) بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية، إذ وجدت القوى والأحزاب "اليسارية" أنها أصبحت مكشوفة الظهر أمام الأنظمة الحاكمة في بلادها من جهة، وأمام الجماهير التي اعتبرت أنها فشلت وعليها مغادرة الساحة السياسية، كما فعل الاتحاد السوفياتي، من جهة ثانية.

ولأن هذه القوى والأحزاب أصبحت أضعف من أن تشكّل خطراً على النظام الرأسمالي السائد، حدث ما يشبه الاتفاق (وهو كذلك) بين النظام السائد والأحزاب والقوى المسماة يسارية على السماح لها بالعمل، لكن ضمن شروط الليبرالية المنتصرة، واستغلت الرأسمالية هذا الحضور اليساري لتصبغ نفسها بصبغة إنسانية تجعل من الديمقراطية الليبرالية نهاية التاريخ.

أكبر خطأ للقوى اليسارية، وخصوصاً تلك التي تصل إلى الحكم، أنها تفقد تدريجياً هُويتها الطبقية وتتحول إلى سمسار يسوّق للسياسات الاقتصادية الليبرالية بين الفقراء. بعد امتصاص الصّدمة الأولى التي تمثلها البرامج الاجتماعية والاقتصادية التي تصبّ في مصلحة الفقراء، تدخل هذه الحكومات اليسارية دوامة الأزمات الرأسمالية، وتصبح جزءاً من اللعبة الديمقراطية نفسها كسباً وخسارة.

هل تعلَّم لولا دا سيلفا الدرس من التجارب السابقة؟ وهل ينحاز إلى طبقة الكادحين، ويفضح الفساد السياسي والاقتصادي، ويجرد ناهبي الشعب البرازيلي من مكتسباتهم؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة، وقد يتعلَّق بنتائجها مستقبل الأنظمة اليسارية في أميركا الجنوبية.