هل المقاومة في غزة بخير؟
يلاحَظ التراجع الكبير خلال الأشهر الأخيرة في مستوى عمليات الاغتيال وعددها على رغم الحضور الميداني المباشر للاحتلال في غزة، و"هذا ما يوجب على الإسرائيليين سؤال قيادتهم عنه... ثم سيعرفون هل المقاومة بخير أم لا؟".
يتكاثر الحديث الإسرائيلي، وحتى في الإعلام الغربي، استناداً إلى مصادر أمنية ورجال استخبارات سابقين، عن حقيقة الضرر الذي أصاب المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، بعد نحو تسعة أشهر من الحرب، قياساً على الأقل بالأرقام التي كان يعلنها "جيش" الاحتلال بعد كل "مرحلة" من عمليته.
حتى الموفدون إلى بيروت كانوا يحاولون "جس النبض" من جهات لبنانية لمعرفة الوضع الحقيقي للمقاومة وعديدها وعتادها. في المقابل، كانت رسائل الطمأنة، داخل الفصائل الفلسطينية نفسها، أو بين هذه الفصائل وشركائها في "جبهة المقاومة"، كحزب الله وإيران وسوريا، تعطي مؤشرات مرتاحة.
مع ذلك، وعلى رغم محاولة المعنيين في الجبهة الأخرى التلصص حتى على فحوى رسائل الطمأنة، فإن أياً منهم لم يجد جواباً واضحاً وشافياً، وعهد هؤلاء إلى بعض المتخصصين بالمجالات الأمنية تقديمَ رواية مغايرة لما يقوله الجيش الإسرائيلي، على أن هذا لا يلغي أن بعضهم كان يتحدث بـ"مهنية".
أمام ما سبق، اتخذت المقاومة الفلسطينية جملة قرارات في بداية هذه الحرب، وقرارات أخرى بعد الهدنة الأولى - الوحيدة حالياً - في 11/2023، من أهمها:
· تجنب النفي أو التأكيد لأي رقم يعلنه الإسرائيليون بشأن الخسائر البشرية.
· تجنب النفي أو التأكيد لأي عملية اغتيال (يُستثنى من ذلك دفن قادة "لواء الشمال" خلال الهدنة).
· تأجيل نعي الشهداء - على غير العادة في الحروب السابقة - إلى ما بعد انتهاء الحرب.
· تجنب النفي أو التأكيد لصحة أي صورة أو معلومة عن أي قيادي في المقاومة.
· تجنب التعليق على قوائم الأسرى التي ينشرها الاحتلال، وخصوصاً في اقتحام "الشفاء" الثاني.
· الرد بالحرب الإعلامية والحرب النفسية على كل إنجاز يحاول الاحتلال تقديمه (النفق إلى "إيرز"، إخراج أسيرين من رفح، عملية النصيرات...).
· المحافظة على نشر البيانات العسكرية، بصورة ساعيّة ومفصّلة، عبر القنوات المعتمدة.
· مواصلة نشر توثيق العمليات بصورة يومية أو شبه يومية في أسوأ الأحوال، على نحو لا يضر أمن المقاومة (الاحتفاظ ببعض المشاهد إلى وقت آخر).
· تأكيد قدرة المقاومة على الاستمرار إلى ما لا نهاية في المواجهة، وتجنب الحديث عن مخزون السلاح.
· إعطاء إشارات إيجابية إلى استمرار عملية التصنيع للسلاح عبر التوثيق.
· إظهار الوحدة والتلاحم بين الفصائل، عبر العمليات المشتركة، وتوثيقها في البيانات والتصوير.
· نفي كل ما تورده الصحافة عن أي مراسلات داخلية بين القيادات السياسية والعسكرية.
ثمة قرارات أخرى تتحفظ مصادر في المقاومة عن ذكرها، لكنها في المجمل تؤكد أن التصور المتفق عليه بين الفصائل هو حرمان الاحتلال من صورة أي منجز يمكن أن يبني عليه.
وحتى لو حاول "الجيش" الإسرائيلي البناء على أي نتيجة ميدانية للقول إنه سجل خطوة في طريق تحقيق أهداف الحرب، فلا بد من ضربة سريعة تضيّع عليه دعاية الإنجاز.
المقاومة عملياً مرتاحة، لأن السقف الذي رفعه الإسرائيليون للحرب عالٍ جداً، ولا يمكن تحقيقه، والحديث هنا عن الهدفين الأساسيين: "تحرير الأسرى، وهزيمة حماس".
في الأول، حديث المقاومة قصير، وأقرّ به المتحدث باسم "جيش" الاحتلال، دانيال هغاري، عندما قال إنه لا يمكن إخراج كل الأسرى عبر عمليات، مثل ما جرى في النصيرات. ومع ذلك، كان هذا الحدث ليؤسس لمرحلة لاحقة لو أن الاحتلال استطاع إكمال هذا المسار سريعاً، عبر عمليات متتالية.
فيما يخص الهدف الثاني، بات الإقرار، إسرائيلياً وأميركياً، وكذلك غربياً، باستحالة تحقق هذا الهدف حديثاً شبه يومي، وفي مستويات سياسية وعسكرية، لكن ثمة ما قررت المقاومة الكشف عنه، عبر مجموعة تسريبات، خلال المدة الماضية، وكلها تدور حول تأكيد هذا المعطى.
في المعطى الأول، تؤكد المصادر أن عملية الاستقطاب للكوادر الجديدة للمقاتلين بدأت منذ أشهر، لكن هذا ليس عائداً إلى "تعويض الخسائر البشرية"، كما يدعي الاحتلال، بل لأن هناك إقبالاً حقيقياً من فئات كثيرة، وبينها من كان خارج الصراع خلال العقدين الماضيين، تحت الرغبة في الانتقام من الاحتلال.
ما فعله "الجيش" الإسرائيلي لم يكن أبداً استهدافاً لمقاتلي المقاومة أو عائلاتهم حصراً. حتى لو سلمنا بادعاء الاحتلال أن المقاومة تتخذ المدنيين دروعاً بشرية، فلا يمكن لهذا كله أن يفسر العدد الكبير من الشهداء والجرحى والمفقودين والأسرى (فوق 150 ألفاً)، وهذا ما يورّط "إسرائيل" في صراع طويل مع أجيال جديدة وفئات مجتمعية أوسع.
أما في جانب الخسائر البشرية، فلا تزال المقاومة تتحفظ عن الحديث عن أي أرقام حقيقية أو تقديرية، ولا تريد أن تقدم إلى الاحتلال أي نتيجة واضحة في هذا الشأن. وكما تقول المصادر نفسها: "نترك للأيام المقبلة أن تقول الحقيقة... بعد الحرب سينقشع الغبار وتخرج المفاجآت".
في المعطى الثاني، وهو ملف التصنيع، سبق أن نشرت عدة فصائل مقاطع لعمليات التصنيع على رغم الانقطاع الكامل للتيار الكهربائي ومحدودية الوقود. لكن هذا التصنيع - كما تفيد المصادر - ليس من الصفر، أي ليس لتعويض ما استُخدِم حصراً، فهناك مناطق في القطاع لا تزال تمتلك مخزونها الكافي، في حين أن تقدير المقاومة لطول أمد المعركة يجعلها تقتصد في استخدام الذخيرة على نحو يكفي المهمات المطلوبة.
في شأن نوعية العمليات، وهذا المعطى الثالث، بات التركيز على إيقاع الخسائر بدرجة أُولى (الكمائن المركّبة، القذائف المضادة للأفراد، عمليات القنص)، وبدرجة ثانية منع القوات المتمركزة في محاور معينة من الراحة (القصف بالهاون والصواريخ قصيرة المدى لمحور نتساريم ومواقع القيادة والتحكم)، وبدرجة ثالثة (التصدي للاجتياحات، والرسائل الصاروخية في "غلاف غزة").
أما بشأن نمط العمل، فتقرر تقسيم الكتائب إلى كتائب صغيرة، والفصائل والسرايا إلى زمر صغيرة من 3-4 مقاتلين في كل زمرة، أي إن الحديث الإسرائيلي عن الكتائب، التي يفككها ويقضي عليها، فات عليه تاريخ صلاحيته، لأن الهيكلية كلها تغيرت منذ بدء اجتياح خان يونس، جنوبي قطاع غزة. كذلك، جرى استبدالٌ سريع للقيادات في الهيكلية العامة، وتعلمٌ سريع من الأخطاء، على رغم إقرار المقاومة بأن الاحتلال استخدم أساليب وتقنيات جديدة لم يستخدمها في حروب ومواجهات سابقة.
نقطة أخيرة تتحدث عنها المصادر، هي أن الإعلانات الإسرائيلية لعمليات الاغتيال انخفضت بصورة ملحوظة منذ بداية العام الجاري. وبعيداً عن التأكيد أو النفي لما سبق من إعلانات، يلاحَظ التراجع الكبير خلال الأشهر الأخيرة في مستوى عمليات الاغتيال وعددها على رغم الحضور الميداني المباشر للاحتلال، و"هذا ما يوجب على الإسرائيليين، وخصوصاً المحللين والخبراء العسكريين، سؤال قيادتهم عنه... ثم سيعرفون هل المقاومة بخير أم لا؟".