هل استعدّت القاهرة حقّاً لمعركة رفح؟
تغفل بعض القطاعات النخبوية المصرية المفتونة بالعلاقة مع الغرب عن عمق الرابط بين مصر وفلسطين، والذي يتخطّى حيّز وحدة الثقافة واللغة والدين، إلى حدٍ لا يمكن معه التمييز بين ما هو مصري وما هو فلسطيني.
لا يجدُ الرأي العام داخل مصر في البيانات الرسمية ما يروي عطشه الناجم عن حالة القلق المتزايد من جرّاء إصرار حكومة الاحتلال على اجتياح محافظة رفح الفلسطينية والسيطرة على محور فيلادلفيا، بهدف معلن يتمثّل في مطاردة فصائل المقاومة بآخر معاقلها، بالشكل الذي من الوارد أن يدفع بالآلاف من أهالي غزة إلى عبور الحدود باتجاه سيناء المصرية.
كلّ ما يثار، حتى الآن، عن تهديد الدولة المصرية بتعليق معاهدة السلام مع "تل أبيب" المُوقّعة عام 1979، إضافة إلى تكثيف الوجود الأمني والعسكري في شمال شرقي شبه الجزيرة وإرسال عشرات الدبابات والمدرّعات، يتمّ نقله عن الصحافة الإسرائيلية ووكالات الأنباء الدولية، من دون إشارة للإعلام المصري، وهي أخبار بدورها منسوبة إلى مصادر أمنية أو دبلوماسية ترفض الإفصاح عن نفسها.
الموقف الرسمي المُعلن من القاهرة على لسان رئيس الحكومة ووزير الخارجية ورئيس الجمهورية، هو بالقطع رفض أيّ مخطّط لتهجير أهالي القطاع خارج أراضيهم، لما يترتّب على ذلك من إضرار بمستقبل القضية الفلسطينية من جهة، وبأمن المناطق التي يتمّ التهجير إليها من جهة أخرى، إضافة إلى إدانة شاملة لممارسات "جيش" الاحتلال بحق أهالي غزة منذ بداية الاجتياح البري.
لكن في المقابل لا توجد خطة مصرية رسمية معلنة حول آلية ردع "إسرائيل" عن تنفيذ مخططها العدواني في رفح، كما لم يُفصح أحد من المسؤولين المصريين عن برنامج عمل في حال كثّف "جيش" الاحتلال من ضغطه على المليون ونصف المليون فلسطيني الموجودين في رفح، باعتبارها الملجأ الأخير، بالشكل الذي أجبر بعضهم على العبور باتجاه مصر. هنا تطفو على السطح ثلاثة أسئلة:
- كيف ستتعامل معهم أجهزة الأمن وقوات حرس الحدود؟
- وبأيّ آلية سيتمّ تسكين أولئك الفلسطينيين المُهجّرين وتأمين معيشتهم؟
- وما هو الخطاب الذي ستواجه به الإدارة المصرية جمهورها بعد أن تكون "إسرائيل" قد نفّذت ما أعلنت عنه؟
آخر التصريحات الرسمية حول اتفاقية كامب ديفيد، كانت تؤكد تمسّك القاهرة بها، فلم يظهر في كلام سامح شكري، وزير الخارجية المصري، يوم الاثنين 12 شباط/ فبراير، أي إشارة إلى وجود نيّة مصريّة لاستخدام ورقة التطبيع لمقايضة الإسرائيليين أو الضغط عليهم.
إذ قال شكري خلال مؤتمر صحافي مع نظيرته السلوفينيّة "توجد اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل، وهي سارية على مدار الـ 40 عاماً، ونحن نتعامل بثقة وفاعلية وسنستمر في هذا الأمر، وأيّ تعليقات نطق بها بعض الأفراد، ربما تكون قد شوّهت".
في السياق ذاته، لفتت تقارير نشرتها "وول ستريت جورنال"، إلى أن القاهرة أعربت عن نيتها استخدام العملية العسكرية الإسرائيلية المخطّط لها في رفح، كرافعة من أجل الضغط على الفصائل الفلسطينية بهدف التوصّل إلى صفقة للإفراج عن الرهائن في غضون أسبوعين.
الشعب المصري بين الطموح والارتياب
يطمح السياسيون المصريون لأن تكون بلادهم صاحبة دور أكثر فاعلية في ردع العدو الإسرائيلي عن تنفيذ مخطّط الإبادة الذي شرع في تنفيذه بحق أهالي غزة منذ اجتياح القطاع برياً يوم 27 تشرين الأول/أكتوبر.
في المقابل فإن دور السلطات المصرية حتى الآن يتركّز في رعاية المفاوضات، والتوصّل إلى حلّ يُرضي الطرفين ويتوقّف بموجبه القتال ويتمّ حقن الدماء، لكن التعنّت الإسرائيلي يُلقي بأحجار ثقيلة ليعطّل هذا المسار، في الوقت الذي تقف فيه مصر عاجزة عن مواجهة تلك الغطرسة الإسرائيلية، أو بصيغة أدقّ، متردّدة في خوض غمار تلك المعركة.
تمتلك الدولة المصرية العديد من الإمكانيات والفرص التي يمكن بها أن تضغط على حكومة بنيامين نتنياهو، وأن تذهب معها إلى أبعد مدى، وبالطبع في مقدّمة تلك الخيارات تعليق اتفاقية السلام، إضافة إلى التصعيد في ميدان السياسة والإعلام، وتشكيل جبهة من الحلفاء الدوليين والإقليميين في مواجهة "إسرائيل"، وأخيراً اتخاذ خطوات أعمق في مواجهة السياسة الأميركية ذاتها عبر تبنّي خيارات سياسية مختلفة عن تلك التي سادت طوال الخمسة عقود الماضية.
لكن يظلّ العامل الأهم في هذا السياق، هو القرار السياسي الذي يمنح الضوء الأخضر لاستخدام تلك الأوراق، وهذا يتطلّب من القاهرة، وقبل كل شيء، الإفصاح عن موقفها في حال أصرّ نتنياهو على تصعيده، ولم يردعه الخطاب الدبلوماسي التقليدي، فهل القاهرة مستعدة لهذا حقاً، أم لا؟
خلال الشهور الماضية عاد المتظاهرون المصريون إلى الميادين العامة التي غابوا عنها لأعوام عديدة نتيجة عوامل متنوّعة بين ما هو أمني وما هو سياسي، وجاءت عودتهم كأحد توابع الزلزال الضخم الذي نفّذته المقاومة الفلسطينية في صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر، والذي أخذ معه عمليات المقاومة إلى فضاء نوعي آخر.
في المظاهرات الضخمة التي شهدتها القاهرة وعدد من المدن المصرية الكبرى، هتف المصريون لفلسطين وشعبها ومقاومتها، وأيّدوا موقف حكومتهم المتمثّل في رفض مشروع التهجير، الذي يعني تحقيق حلم آباء "إسرائيل" الأوائل في وراثة أرض بلا شعب.
يدرك المصريون ضوابط السياسة الخارجية لبلادهم، وهم لم يطمحوا سوى لموقف دبلوماسي أقوى في مواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة، مع فتح مستمر للمعبر لتمرير المعونات والمؤن الغذائية واستقبال الجرحى، إضافة إلى التشبّث بالموقف الرافض لعمليات التهجير.
لكن في الوقت ذاته، يخشى قطاع من الساسة المصريين أن تتراكم الضغوط في مسألة التهجير، مقترنةً بسياسة الأمر الواقع التي يتبّعها الاحتلال الإسرائيلي في كثير من الأحيان، مما يجعل الإدارة المصرية عاطلة عن إيجاد متسع يسمح لها بالمناورة، ويصبح لا مفرّ حينها من القبول بالخيار الذي تفرضه حكومة الاحتلال، خاصةً أنه لا توجد حتى الساعة أجندة معلنة لمواجهة النتائج المترتّبة على معركة رفح.
الأزمة الاقتصادية.. الهاجس الأول
في دولة فقيرة من جهة الموارد الطبيعية مثل مصر، وبعدد سكان ضخم تجاوز الـ 106 ملايين نسمة، يصبح الاقتصاد هو الهاجس الأول لأيّ نظام حكم يدير البلاد. لكن تحديد آليات الحلّ، هو ما يميّز إدارة عن الأخرى، فهناك مسار يأخذ البلاد باتجاه الاستدانة والرضوخ لشروط مؤسسات المال الدولية مثل الخصخصة وتعويم العملة، وهناك مسارات أخرى تجد الحل في تعزيز التعاون مع دول الجنوب والاعتماد على الذات والتصنيع والتنمية المحلية، ولكل مسار ضريبته في مجال السياسة والحرب بضرورة الحال.
يدور حديثٌ بين المصريين، يصعُب تحديد مدى صوابه، حول أن الصعوبات الاقتصادية الأخيرة التي تواجه البلاد من تدهور غير مسبوق للقيمة الشرائية للعملة المحلية ونقصٍ لبعض السلع في المتاجر والأسواق، هي نتاج عاملين، الأول داخلي، ناجم عن سلوك المسؤولين وتبنّيهم لنُهُجٍ اقتصادية بعينها، والثاني خارجي، تحرّكه أيادٍ في واشنطن و"تل أبيب" لإجبار الدولة على القبول بعملية التهجير، وذلك مقابل حزمة من المساعدات أو المُسكّنات التي تمكّن مصر من عبور أزمتها أو على الأقل تحدّ من شعور المواطنين بالآلام الاقتصادية.
كان المألوف داخل مصر لفترات طويلة هو حنين الطبقات محدودة الدخل إلى الفترة الناصرية، لما شهدته من برامج للتصنيع والإصلاح الزراعي، ولما تميّز به النظام حينها من انحيازٍ طبقي واضح للفقراء، لكن اللافت اليوم هو ارتفاع معدّلات الحنين إلى فترة حسني مبارك، الذي يُفترض أنه قد أطيح به بثورة شعبية في مطلع عام 2011، إذ يشعر العديد من المصريين أن الأوضاع الاقتصادية كانت أفضل وأكثر استقراراً، ولم تكن الأسعار تشهد تلك القفزات غير المنطقية.
على المستوى السياسي، أيضاً، بات هناك استحضار لمواقف الإدارات المصرية السابقة في مواجهة العدو الإسرائيلي، مع إشارة متكرّرة إلى أن الموقف المصري حينها كان يتسم بوضوح أكبر، وبقدرة حقيقية على السعي إلى تحقيق أهدافه، حتى في ظل الخيارات الاقتصادية الصعبة، وتحت تأثير ضغوط مشابهة يمكن أن تمارسها دول كبرى معادية.
هنا يلزم الانتباه إلى عمق تأثير القضية الفلسطينية على الرؤية الاقتصادية للمصريين، سواء القطاعات الشعبية أو النخبة:
فأولاً، تبنّى عشرات الملايين من المصريين خيار المقاطعة لكلّ البضائع والسلع التي ثبت تعاون المؤسسات المالكة لها بشكل أو آخر مع "إسرائيل"، وهي في الأغلب مملوكة للرأسماليات الغربية الكبرى، وكانت تهيمن على السوق المصري، باعتباره أحد الأسواق الضخمة التي يعتاش عليها الاقتصاد الغربي. وقد منحت حملات المقاطعة الفرصة للمنتجات محلية الصنع كي تجد فرصتها في الأسواق مرة أخرى، مما يُفترض أن يمثّل عاملاً إيجابياً للرأسمالية المحليّة.
أما ثانياً، فتربط النخبة المصرية، بين تضاعف حجم الديون الخارجية وخيارات الانفتاح الاقتصادي التي تبنّتها الدولة في النصف الثاني من السبعينيات، وأدّت إلى تخريب الصناعة الوطنية وارتفاع العجز في الميزان التجاري، وبين "مشاريع السلام" مع "إسرائيل".
إذ يرى المثقفون المصريون أن مرحلة ما بعد حرب أكتوبر 1973، والتي شهدت شيوعاً للأفكار الانعزالية الداعية إلى التقارب مع واشنطن والتصالح مع "تل أبيب"، والتخلّي عن الدور القيادي في المنطقة، والابتعاد عن القضية الفلسطينية، هي ذاتها المرحلة التي شهدت تخلّياً عن مشاريع التصنيع والتنمية المعتمدة على الذات، وأدت بالبلاد إلى الاعتماد على الاستيراد وتبنّي أجندات صندوق النقد والبنك الدوليّين. ووفقاً لهذا الطرح فإنّ التنمية الاقتصادية وتبنّي القضية الفلسطينية صنوان لا يفترقان.
مصر المتورّطة.. رغماً عنها
لن تسلم القاهرة من الاتهامات الإسرائيلية بدعم المقاومة الفلسطينية، ومؤخّراً نقلت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش قوله بأن مصر تتحمّل مسؤولية كبيرة عمّا حدث في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، مشيراً إلى أنّ إمدادات حركة حماس من الذخيرة تمرّ عبر مصر إلى حد كبير.
بحسب محللين مصريين، فإن هذا التصريح الهجومي من قبل وزير في حكومة الاحتلال، يكشف عن نيّة "إسرائيل" الجادة في السيطرة على محور فيلادلفيا (محور صلاح الدين)، وبالتالي خنق قطاع غزة، وإطباق الحصار عليه من حدوده الممكنة كافة.
شعور القاهرة بأنه يتمّ توريطها، رغم تمسّك المسؤولين فيها بخيار التطبيع إلى أبعد مدى، دفع المتحدّث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية إلى إدانة تصريحات سموتريتش، واصفاً إياها بأنها "غير مسؤولة وتحريضية، ولا تكشف إلا عن نهم للقتل والتدمير، وتخريب لأيّ محاولة لاحتواء الأزمة في غزة".
تغفل بعض القطاعات النخبوية المصرية المفتونة بالعلاقة مع الغرب عن عمق الرابط بين مصر وفلسطين، والذي يتخطّى حيّز وحدة الثقافة واللغة والدين، إلى حدٍ لا يمكن معه التمييز بين ما هو مصري وما هو فلسطيني. فثمة شعبٌ واحدٌ ببلدين، والحدود هنا لا محل لها من الإعراب، حتى أن خريطة سيناء (ذات الـ 60 ألف كيلو متر مربّع) لا يكتمل رسمها ورونقها، ولا تستقيم أضلاعها الثلاثة، إلا بفلسطين (ذات الـ 27 ألف كيلو متر مربّع).
يدرك ساسة العالم حقيقة أن مصر لا يمكن أن تنعزل عن سيناء، أيّاً ما كان خيار الحُكم فيها، وأن الإدارة المصرية مرغمة على التفاعل بإيجابية مع هذه الزاوية في شمال شرقي البلاد منذ فجر التاريخ، وأن هذا التفاعل قد تضاعف مرات ومرات مع قيام "إسرائيل"، التي كان غرسها بإرادة غربية في هذه المنطقة يستهدف حصار مصر ومنع تمدّدها شرقاً.
أمام تلك الحقائق تصبح الإدارة المصرية مدعوّة، فقط، لاتخاذ ما يلزم للتفاعل مع الواقع الذي يفرض نفسه على الجميع، وأن تختار أن تتفاعل بما تقتضيه مصلحتها ومصلحة الأمة العربية معها، حتى لا تكون بصورة أو أخرى متورّطة رغماً عنها، لأنه لا مفرّ أمام القاهرة من الاستعداد لمعركة رفح وما بعدها من معارك.