نظام الأسد: نهاية تجربة أم نهاية الفكر القومي العربي؟

الفكر القومي العربي، رغم ما تعرض له من انتكاسات، لا يزال يحمل في جوهره إمكانيات واعدة لإعادة التبلور والتجدّد. يكمن مفتاح الإحياء في القدرة على تجاوز أخطاء الماضي، والانتقال من الشعارات إلى العمل الفعلي.

  • القومية كنظم حكم والقومية كإيديولوجيا.
    القومية كنظم حكم والقومية كإيديولوجيا.

شهد الفكر القومي العربي على مدى العقود الماضية تحوّلات هائلة، جعلت منه محوراً للنقاش السياسي والفكري في العالم العربي. ارتبط هذا الفكر، منذ نشأته، بطموحات كبرى تجاوزت حدود الدول القُطرية لتشمل مشروعاً شاملاً للوحدة العربية، ومواجهة التدخلات الأجنبية، وتعزيز الهوية الثقافية المشتركة. 

قاد هذه الطموحات زعماء بارزون مثل جمال عبد الناصر في مصر، وصدام حسين في العراق، ومعمر القذافي في ليبيا، وحافظ الأسد في سوريا. كانت هذه الأنظمة تجسد الأمل في تحقيق نهضة عربية شاملة، لكن مآلاتها المتعثرة أثارت تساؤلات عميقة حول قدرة الفكر القومي على مواكبة التحديات المتغيرة.

مع سقوط هذه الأنظمة أو تراجعها، أصبح السؤال حول مصير الفكر القومي العربي أكثر إلحاحاً. هل انتهى هذا الفكر مع زوال التجارب السياسية التي حملت شعاراته؟ أم أنه لا يزال حياً كإيديولوجيا تمتلك مقومات البقاء والتجدد؟ وكيف يمكن فهم التحوّلات التي طرأت عليه في ظل سياقات جديدة تفرضها العولمة، والنزاعات الإقليمية، وتزايد الهويات المحلية؟

إن الإجابة عن هذه التساؤلات تتطلب فهماً عميقاً للفرق بين القومية كنظم حكم، والقومية كإيديولوجيا فكرية وسياسية. كما تتطلب تحليلاً للتحديات التي واجهها هذا الفكر، والفرص التي قد تتيح إعادة تعريفه وتطويره بما يلائم احتياجات العصر وتطلعات الشعوب العربية.

القومية كنظم حكم والقومية كإيديولوجيا

لفهم الإجابة عن هذا السؤال، يجب التمييز بين التجارب القومية التي تجسدت في أنظمة حكم، وبين الفكر القومي كإيديولوجيا وحركة ثقافية وسياسية.

فالأنظمة القومية التي ظهرت في القرن العشرين ارتبطت غالباً بشخصيات سياسية كاريزمية، ولكنها واجهت تحديات كبرى، داخلياً وخارجياً، أدّت إلى سقوطها أو تراجعها. ومع ذلك، يبقى الفكر القومي أكثر عمقاً واتساعاً من التجارب السياسية التي حملته.

التحديات التي واجهها الفكر القومي

شهد الفكر القومي العربي على مر تاريخه سلسلة من التحديات التي ساهمت في إضعاف تأثيره وتراجع حضوره. تراوحت هذه التحديات بين عوامل داخلية نشأت من بنية الأنظمة التي تبنّته، وأخرى خارجية فرضتها التحوّلات الجيوسياسية والضغوط الدولية. ومن هنا، يصبح من الضروري استعراض أبرز هذه التحديات لفهم أسباب تعثر المشروع القومي العربي.

فشل التجارب السياسية

تجارب الأنظمة القومية غالباً ما انزلقت نحو الاستبداد والقمع، ما أفقدها المصداقية لدى شعوبها. النزاعات الداخلية والانقلابات أثرت في استقرار هذه الأنظمة وأضعفت قدرتها على تحقيق أهدافها الكبرى.

التغيرات الدولية والإقليمية

انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة أثّرا في الدعم الذي كانت تتلقاه الحركات القومية.

صعود العولمة والهويات المحلية والدينية أدّى إلى تقليص مساحة الخطاب القومي.

غياب المشروع الواضح

كثير من الأنظمة القومية لم تقدم رؤى واضحة أو خططاً عملية لتحقيق الوحدة العربية.

التركيز على الشعارات بدلاً من الإنجازات الملموسة أدّى إلى انحسار التأييد الشعبي.

هل يمكن إحياء الفكر القومي؟

رغم التحديات الكبرى التي واجهها الفكر القومي العربي خلال العقود الأخيرة، لا يمكن الادعاء بأنه انتهى كلياً. إن جذور هذا الفكر تضرب عميقاً في الوعي العربي الجماعي، إذ يظل يعبّر عن تطلعات شعبية مرتبطة بالمصير المشترك والقضايا الكبرى التي تجمع العرب، مثل القضية الفلسطينية ومواجهة التدخلات الأجنبية.

لإحياء الفكر القومي، يجب أن يكون هناك جهد جماعي يتبنى إعادة صياغة هذا المشروع بما يتناسب مع متطلبات الواقع الجديد. 

أولاً، ينبغي للقومية العربية أن تتخلص من التصورات المركزية القديمة التي ركزت على الوحدة السياسية الصلبة، وتتجه نحو صيغة أكثر مرونة، تعزز التكامل الإقليمي والتعاون في مجالات مثل الاقتصاد، والتعليم، والتكنولوجيا. هذا التحوّل يمكن أن يجعل المشروع القومي أكثر واقعية وقابلية للتطبيق.

ثانياً، يجب أن يستوعب الفكر القومي التعددية الثقافية والعرقية والدينية في العالم العربي، بحيث يكون مشروعاً جامعاً لا إقصائياً. إن التعامل مع هذا التنوّع بشكل إيجابي يعكس قدرة الفكر القومي على احتضان الجميع ضمن إطار مشترك، قائم على العدالة والمساواة.

ثالثاً، يتطلب إحياء الفكر القومي تعزيز دوره في مواجهة التحديات الراهنة، مثل تغيّر المناخ، والأمن الغذائي، والأزمات الاقتصادية. هذه القضايا المشتركة يمكن أن تكون محركات فعّالة لإعادة صياغة القومية العربية كمشروع عملي يتجاوز الشعارات.

وأخيراً، يجب أن يكون الفكر القومي منفتحاً على العالم، يتبنى قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان كركائز أساسية. إن الجمع بين الهوية القومية والمبادئ العالمية يمكن أن يعيد للقومية العربية جاذبيتها ويجعلها أكثر قبولاً لدى الأجيال الجديدة.

إن إحياء الفكر القومي العربي لا يعني بالضرورة العودة إلى الماضي، بل هو دعوة لتجديد مشروع قومي يتناسب مع تعقيدات الحاضر وتطلعات المستقبل.

إعادة تعريف القومية

مع تراجع تأثير الفكر القومي التقليدي، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف هذا المشروع بما يتلاءم مع متغيرات العصر وتحدياته. 

إعادة التعريف ليست مجرد مراجعة شكلية، بل هي عملية ضرورية لتجديد الإيديولوجيا وإعادة ربطها بالواقع العربي. إنها محاولة لإحياء الروح القومية من خلال استيعاب الدروس السابقة وصياغة رؤى جديدة تركز على التكامل بدلاً من الصدام، وتستوعب التعددية بدلاً من الإقصاء.

التركيز على التعاون الإقليمي

بدلاً من الوحدة السياسية الصلبة، يمكن العمل على تعزيز التكامل الاقتصادي والتعاون في المجالات الثقافية والتعليمية.

احتواء التعددية

يجب أن يكون الفكر القومي أكثر انفتاحاً على التنوّع الثقافي والديني والعرقي، بحيث يكون مشروعاً جامعاً لا إقصائياً.

"دمقرطة" القومية

إن إدماج مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخطاب القومي ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة ملحّة لضمان تأييد أوسع من الشعوب العربية. لا يمكن للفكر القومي أن يظل حبيس نماذج الحكم السلطوية التي ارتبطت به في الماضي، بل يجب أن يتحوّل إلى إطار جامع يعكس إرادة الشعوب وطموحاتها في الحرية والعدالة والمساواة.

أولاً، يتطلب "دمقرطة" القومية تحوّلاً جذرياً في بنية الفكر القومي ذاته، بحيث يصبح أكثر ارتباطاً بالقواعد الشعبية وأقل تركيزاً على الشخصيات الكاريزمية أو القيادات المركزية. يجب أن يكون المشروع القومي مشروعاً جماهيرياً يتيح مشاركة واسعة في صياغته وتنفيذه.

ثانياً، يجب أن يستوعب الخطاب القومي آليات الديمقراطية التشاركية، التي تمكّن المواطنين من التعبير عن آرائهم والمساهمة في اتخاذ القرارات الكبرى. إن تعزيز دور المؤسسات المدنية والنقابات والأحزاب السياسية يمكن أن يخلق بيئة تشاركية تعزز من شرعية المشروع القومي.

ثالثاً، يتعيّن على القومية العربية أن تعترف بحقوق الإنسان كركيزة أساسية، تشمل احترام الحريات الفردية، وحقوق الأقليات، وحرية التعبير. هذا الالتزام سيمنح الفكر القومي مصداقية أكبر في نظر الأجيال الجديدة التي ترى في هذه القيم جزءاً لا يتجزأ من تطلعاتها المستقبلية.

رابعاً، يجب أن يكون هناك انفتاح على التجارب العالمية في تحقيق التنمية والديمقراطية، من دون المساس بالهوية القومية أو القيم الثقافية. هذا التوازن بين المحلي والعالمي يمكن أن يجعل الفكر القومي أكثر مرونة وقابلية للتطور.

إن دمقرطة القومية ليست فقط طريقاً لإحياء المشروع القومي العربي، بل هي أيضاً وسيلة لضمان استمراره كفكرة قابلة للحياة والتجدد، تعكس تطلعات الشعوب العربية في بناء مستقبل مشترك قائم على الحرية والكرامة الإنسانية.

الارتباط بالقضايا الملحّة

يجب أن يتعامل الفكر القومي مع التحديات الراهنة مثل الأمن الغذائي والمائي، وتغيّر المناخ، والتكنولوجيا، باعتبارها قضايا مشتركة تتطلب تعاوناً عربياً.

صيغة جديدة للوحدة

قد تكون الوحدة التدريجية بديلاً عملياً للوحدة الشاملة التي كانت تطمح إليها الحركات القومية في القرن الماضي. يمكن أن يبدأ ذلك بتعزيز التعاون بين الدول العربية ضمن أقاليم محددة مثل الخليج، أو المغرب العربي، أو المشرق، ومن ثم البناء على هذه النجاحات لتحقيق تكامل أوسع.

المستقبل: أسئلة مفتوحة

ما الذي يحتاجه الفكر القومي اليوم ليصبح مشروعاً ملهماً للأجيال الشابة؟

كيف يمكن صياغة خطاب قومي جديد يتماشى مع متغيّرات العصر من دون أن يفقد جوهره؟

هل يمكن للفكر القومي أن يلعب دوراً في مواجهة النزاعات الطائفية والعرقية التي تعصف بالمنطقة؟

عقبات حاضرة وآفاق ممكنة

إن الفكر القومي العربي، رغم ما تعرض له من انتكاسات، لا يزال يحمل في جوهره إمكانيات واعدة لإعادة التبلور والتجدّد. يكمن مفتاح الإحياء في القدرة على تجاوز أخطاء الماضي، والانتقال من الشعارات إلى العمل الفعلي الذي يخاطب احتياجات الشعوب ويعبّر عن طموحاتها. إن المشروع القومي اليوم بحاجة إلى رؤية شاملة تزاوج بين التعددية والديمقراطية، وتعيد بناء الثقة بين الحاكم والمحكوم.

لا يعني إحياء الفكر القومي العودة إلى نماذج تاريخية انتهى زمانها، بل صياغة مشروع جديد يستوعب التحديات الراهنة، من قضايا العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، إلى صيانة السيادة الوطنية والتصدي للتدخلات الأجنبية. إن نجاح هذا المشروع يتطلب شجاعة في مواجهة العقبات، وإرادة سياسية تتخطى الحسابات الضيقة إلى آفاق أرحب من التعاون الإقليمي والعمل الجماعي.

الفكر القومي العربي هو طموح مستمر لا يمكن اختزاله في تجربة أو نظام. إنه نداء متجدّد يعبّر عن حلم وحدة الأمة وكرامتها. وبينما قد تبدو الطريق وعرة، فإن إدراك الشعوب العربية لمصيرها المشترك هو الضامن لاستمرار هذا الحلم وإمكانية تحقيقه