وأخيراً .. الجمهورية السورية التركية المتحدة!

شهدت العلاقات التركية - السورية حتى بدايات 2011 تطوّرات مثيرة في جميع المجالات وعلى المستويات كافة التي ساهمت في تحقيق نقلة نوعية وجوهرية في العلاقات بين الجارتين.

0:00
  • العلاقات التركية السورية.
    العلاقات التركية السورية

عندما اختار رئيس الوزراء عبد الله جول في 4 كانون الثاني/يناير سوريا كأول دولة أجنبية يزورها بعد انتصار حزب العدالة والتنمية في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2002 كان يتمنّى لدمشق أن تكون بوابة الانفتاح التركي على دول المنطقة وهو ما تحقّق له بمساعي الرئيس الأسد على الصعيد العربي.

حيث تمّت دعوة رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان وللمرّة الأولى إلى القمة العربية في الخرطوم في آذار/مارس 2006، كما أدّت سوريا دوراً مهماً في انتخاب التركي أكمل الدين إحسان أوغلو أميناً عامّاً لمنظّمة المؤتمر الإسلامي خلال اجتماعات المنظّمة في إسطنبول في كانون الثاني/يناير 2005 .

وشهدت العلاقات التركية - السورية بعد ذلك وحتى بدايات 2011 تطوّرات مثيرة في جميع المجالات وعلى المستويات كافة التي ساهمت في تحقيق نقلة نوعية وجوهرية في العلاقات بين الجارتين على  الرغم من المشكلات بينهما، وأهمها موضوع لواء اسكندرون ومياه الفرات والدعم السوري لحزب العمال الكردستاني في عهد الرئيس حافظ الأسد وأخيراً الذكريات التاريخية.

فقد دخل السلطان سليم المنطقة العربية عبر البوابة السورية بعد معركة مرج دابق في 24 آب/أغسطس 1516 ومنها وصل القاهرة بعد معركة الريدانية في 22  كانون الثاني/يناير 1517.

وخرج الأتراك من المنطقة العربية عبر سوريا أيضاً بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى عام 1918. وشهدت العلاقات التركية - السورية بعد ذلك وبشكل خاص بعد إعلان الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك عام  1923 العديد من مراحل الفتور والتوتر لأسباب متعدّدة وأهمها ضمّ لواء اسكندرون إلى تركيا عام 1938.

حيث سبق لمصطفى كمال أتاتورك الذي خدم كضابط في دمشق عام 1909 أن أوصى "بعدم التدخّل في الشؤون العربية وقال "علينا أن لا نتدخّل في مشكلات الدول العربية فيما بينها ولا نتوسّط بينها إلا إذا طُلب منا ذلك".

وجاء استلام عدنان مندرس السلطة في أنقرة بعد انتخابات أيار/مايو 1950 ليضع العلاقات مع دمشق أمام تحدّيات صعبة ومعقّدة خاصة بعد انضمام تركيا للحلف الأطلسي عام 1952 وحلف بغداد عام 1955 وزرع أكثر من مليون لغم أرضي على الحدود التركية مع سوريا بعد التوتر بين القاهرة والعواصم الغربية قبيل وبعد تأميم السويس والعدوان الثلاثي على مصر، وأخيراً قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا في شباط/فبراير 1958. وحشد الجيش التركي آنذاك قواته على طول الحدود استعداداً لاجتياح سوريا في إطار الردّ التركي السياسي والنفسي على هذه الوحدة التي دفعت أنقرة للتقارب مع "تل أبيب". واكتسب ذلك طابعاً مثيراً خلال وبعد زيارة بن غوريون إلى أنقرة صيف 1958، وشهدت تلك الفترة تحالفاً استراتيجياً بين تركيا و"إسرائيل" وإيران في حكم الشاه الذي كان شريكاً خطيراً للكيان الصهيوني في مجمل مخطّطاته ومشاريعه الإقليمية.

وجاءت حروب 1967 و1973 وما إلى ذلك من أحداث دموية في سوريا أواخر السبعينيات، ومن ثمّ الحرب الأهلية في لبنان وما أدّت إليه من اجتياح إسرائيلي حتى بيروت، وأخيراً ثورة الإمام الخميني في إيران، لتدفع أنقرة إلى انتهاج سياسات توازن مع سوريا ودول المنطقة التي شهدت علاقاتها فترات مختلفة من الفتور والتوتر وأحياناً اللامبالاة وفق مزاج الأنظمة الحاكمة وخاصة في دول الخليج.

وجاء الانفتاح التركي على سوريا بعد مشاركة الرئيس  الأسبق أحمد نجدت سازار في مراسم تشييع  جنازة الرئيس حافظ الأسد في حزيران/يونيو 2000، وبعد ذلك زيارة عبد الله جول إلى دمشق في كانون الثاني/يناير 2003 لتضع سوريا من جديد ضمن أولويات السياسة الخارجية لأنقرة التي استنفرت كلّ إمكانياتها لتحقيق المكاسب القصوى من علاقاتها مع دمشق وشخصياً مع الرئيس الأسد.

وهو ما كان كافياً للتوقيع على العشرات إن لم نقل المئات من الاتفاقيات في جميع المجالات لينتهي الأمر بإلغاء التأشيرات بل وحتى الحواجز الحدودية بين البلدين في تشرين الأول/أكتوبر 2008.

وكان ذلك كافياً لعقد اجتماع مشترك للحكومتين السورية -التركية في دمشق في كانون الثاني/يناير 2009 وبعدها بعام في أنقرة، وكلّ ذلك على طريق تحقيق التكامل بل الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل وحتى الأمنية والعسكرية، لينتهي الأمر في كلّ ذلك مع ما يسمّى بـ "الربيع العربي" الذي وضع البلدين في خندقين معاديّين تماماً بعد التدخّل التركي المباشر في أحداث سوريا اعتباراً من حزيران/يونيو 2011.

ورفعت الأوساط القومية التركية حينها شعار الميثاق الوطني الذي يتحدّث عن ضمّ شمال سوريا والعراق إلى حدود تركيا الحالية. وتمّ الإعلان فوراً في صيف 2011 عن تشكيل ما يسمّى بالجيش السوري الحرّ وبعدها بأشهر عن المجلس الوطني السوري المعارض في إسطنبول، ليكون ذلك بداية التدخّل التركي المباشر في سوريا التي دخلها كلّ الإرهابيين الأجانب والمعدّات الحربية عبر الحدود مع تركيا وهو ما اعترف به رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم في تشرين الأول/أكتوبر 2017. 

وبقيت تركيا طيلة الفترة الماضية على خطّ التدخّل المباشر وغير المباشر وفي جميع المجالات حيث تبنّت جميع الفصائل المسلّحة وقدّمت لها كلّ أنواع الدعم المادي والسياسي والعسكري، ليجعل ذلك منها الطرف شبه الوحيد في مجمل المعادلات الإقليمية والدولية بعد أن سمح  الرئيس بوتين للجيش التركي بالتوغّل في الشمال السوري في 24آب/أغسطس 2016 (الذكرى الـ 500 لدخول السلطان سليم سوريا).

وقبلت أنقرة لنفسها بعد ذلك أن تمثّل "المعارضة" السورية في مباحثات وتفاهمات واتفاقيات أستانة وسوجي التي فتحت الطريق أمام التدخّل التركي العسكري الشامل غرب الفرات وشرقه، فأصبحت تسيطر على نحو 10%؜ من المساحة السورية بالتنسيق والتعاون مع الفصائل المنضوية تحت راية ما يسمّى بالجيش الوطني السوري الذي تأسس في مدينة أورفا جنوب تركيا في تشرين الأول/أكتوبر 2019 ليحلّ محلّ الجيش السوري الحرّ استعداداً للمرحلة المقبلة في الدور التركي في سوريا.

وجاءت المصالحات التركية مع الإمارات والسعودية و"إسرائيل" وأخيراً مصر لتستغلّها أنقرة في تحضيراتها للمرحلة المقبلة في الدور التركي في سوريا، وهو ما يتحدّث عنه الإعلام الموالي للرئيس إردوغان الآن بعد إن اعترف  وزير الخارجية فيدان "بعلاقات أنقرة الوطيدة مع هيئة تحرير الشام طيلة السنوات الماضية" التي شهدت تحرّكات عسكرية واستخباراتية وسياسية تركية واسعة سراً وعلناً  استعداداً "للضربة القاضية" التي انتهت بسقوط الرئيس الأسد في الـ 8 من الشهر الجاري.

وقالت أوساط دبلوماسية إن الرئيس إردوغان كان يعرف أنّ الأسد سيرفض دعواته للمصالحة، وربما من خلال المعلومات التي كان تصله من الرئيس بوتين ورئيس دولة الإمارات محمد بن زايد الذي كان أوّل من بادر للمصالحة مع الأسد في تمثيلية بارعة خدعت الأسد بعد دعوته إلى القمة العربية، ولكن من دون أن تساهم في إعادة العلاقات العربية مع دمشق إلى مجراها الطبيعي.

ويفسّر كلّ ذلك تجاهل العواصم العربية جميعاً حقيقة الدور التركي المباشر في عملية إسقاط الرئيس الأسد، وهو ما استعدّت له الفصائل ومعها الجيش التركي لما لا يقلّ عن ثلاثة أشهر راقبتها موسكو عن كثب ولكن من دون أيّ تحرّك جدّي لمواجهة هذا الاحتمال الذي انتهى بسقوط دمشق خلال 12 يوماً فقط.

وجاءت زيارة رئيس المخابرات إبراهيم كالين ومن بعده وزير الخارجية ورئيس المخابرات السابق هاكان فيدان إلى دمشق لتعكس مضمون الدور التركي المقبل في سوريا، وبات واضحاً أنها ستكون تحت "الوصاية" التركية بسبب علاقات كلّ القيادات السياسية والعسكرية والاستخباراتية بل وحتى الاقتصادية السورية مع كلّ الأطراف التركية التي ستؤدّي دورها الأساسي والفعّال والشامل في تقرير مصير سوريا المستقبليّ.