نحن وبن غفير في المنعطف الخطير
بن غفير الوزير اليميني المتطرف في الحكومة الإسرائيلية الحالية، الذي يصفه يائير لابيد بـ"مهرج التيك توك"، بنى حياته المهنية على العنصرية والاستفزاز، ورأى فكرة "الدولة اليهودية الديمقراطية" مجرد هراء.
أستميح الكاتب اليمني محمد العمراني عذراً، لأنني استوحيت عنوان مقالي هذا بعدما قرأت مجموعته القصصية الثانية: "نحن والحمير في المنعطف الخطير!"، التي تميزت بسرد رائع وأسلوب مشوق، وشملت قصصاً ساخرةً من واقعٍ حافلٍ بالتناقضات.
في كتابه المذكور، يتحدَّث الأديب اليمني عن معاناة أهل قريته الذين اعتادوا نقل مياه الشرب على الحمير من عين ماء بعيدة، وكان لا بد لهم من أن يسلكوا، في طريقهم إليها، منعطفاً خطراً بجانب وادٍ سحيق، تسبّب بوفاة عددٍ من الأطفال نتيجة سقوطهم مع الحمير في الوادي.
على مدى عقود، كان وجهاء القرية يجتمعون في منزل أحدهم يناقشون موضوع المنعطف وكيفية إيجاد حلٍ لمشكلته من دون جدوى. وعندما سألهم الكاتب، الذي تعرض أكثر من مرة للسقوط في الوادي حين كان طفلاً يرافق الحمار إلى العين: "لماذا لا تسلكون طريقاً آخر آمناً للوصول إلى العين"؟، ففوجئ بإجابةٍ مفزعة: "نحن نمشي خلف الحمير، وهي التي تسلك بنا تلك الدرب".
لعلَّ توافق اسم إيتمار بن غفير مع الحمير في السجع، وفي السلوك أحياناً كثيرة، وتوافق مواقف العرب "النمطية المتكررة" من الصراع العربي الإسرائيلي، حتى مع وجود حكومة يمينية صهيونية فاشية، مع مواقف أهل القرية المذكورة، هو ما شجعني على أن أمضي في هذه المقاربة الساخرة في تعاملنا معه بما يشبه تعامل أهل القرية باتباعهم الحمير، نظراً إلى النتيجة التي آلت إليها حياتهم، وربما حياتنا، نتيجة تكرار "تجربة المجرب".
بن غفير الوزير اليميني المتطرف في الحكومة الإسرائيلية الحالية، الذي يصفه يائير لابيد زعيم المعارضة الإسرائيلية بـ"مهرج التيك توك"، بنى حياته المِهنية على العنصرية والاستفزاز، ورأى فكرة "الدولة اليهودية الديمقراطية" مجرد هراء. وقد أدين بثماني تهم على الأقل، بما فيها دعم منظمة إرهابية والتحريض على العنصرية، وجمع سجلاً إجرامياً لفترةٍ طويلة.
من وجهة نظره، إن الاتجاهات الديموغرافية في فلسطين التاريخية ستحول حتماً غير اليهود في "إسرائيل" إلى أغلبية، ومن ثم، فإن الحل المثالي هو "الترحيل الفوري للعرب"، ففكرة التعايش مع السكان العرب في "إسرائيل"، الَّذين يشكلون 21% من سكانها، ومع الفلسطينيين بشكل عام، على حدّ تعبير بن غفير، هي "ثرثرة" تشبه إلى حد كبير نظرة زعيمه الروحي العنصري كهانا، الذي قال عن الحياة مع العرب: "لا يمكن التعايش مع السرطان".
بالنسبة إليه، إن "الطريق" لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو "تبادل السكان". بعبارةٍ أخرى: طرد الفلسطينيين من "إسرائيل الكبرى"، وهي أرض تشمل الضفة الغربية وشرق القدس، وربما الأردن، بحسب شريكه العنصري الآخر بتسلئيل سموتريتش.
ولعلَّ الفترة القصيرة التي قضاها بن غفير على كرسيه الحكومي لغاية الآن أثبتت للجميع بما لا يدع مجالاً للشك سعيه المحموم، وربما مقدرته في بعض الأحيان، على إحداث تغييرٍ جذري حاد لمصلحة الرواية الاستعمارية التملودية فيما يخص الأقصى والقدس، كما في غيرها، كقضية الأسرى الفلسطينيين، وتشريع نشر السلاح بين المستوطنين، واستحداث الميليشيات الخاصة التي سماها "الحرس الوطني"، وتشريع منع رفع العلم الفلسطيني في القدس وفي الداخل الفلسطيني المحتل، وتشريع قانون ترسيخ القيم الصهيوينة في قرارات الحكومة وغيرها الكثير.
بالنسبة إلينا، اختبر وصول بن غفير إلى كرسي وزارة الأمن القومي الحدود الأخلاقية لما يمكن أن يقبل به المجتمع الإسرائيلي الذي انتقل، بما فيه "يساره الليبرالي"، من التساؤل عما إذا كان يمكن لشخص عنصري مثيرٍ للانقسام والجدل، مثل بن غفير، أن يصل إلى أعلى مستويات السلطة في "إسرائيل"، إلى التساؤل عن إمكانية احتوائه، ثم مع مضي الوقت، الانتقال من فكرة "الاحتواء" إلى إمكانية تغير الرجل وتبدل أفكاره وتحوله إلى "الاعتدال"!
والواقع أن الخطر الَّذي يمثله بن غفير يكمن في الأهداف المختلفة التي أشرنا إليها أعلاه، والتي يسعى لتحقيقها عن طريق "زرع الفوضى"، فهو مصاب "بهوس إشعال الحرائق"، مقارنة بسموتريتش، الركن الآخر من هذه الحكومة، "المصاب بجنون العظمة". وكلاهما يؤمنان بـ"حق إسرائيل الإلهي" في الحكم من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، ونحن ندرك أنهما على الأرجح سيفعلان أشياء لم يفعلها الآخرون، وسيذهبان أبعد من ذلك إن بقيا وأتيحت لهما الأدوات وبقيت أجندتهما من دون مواجهة وتعطيل.
لقد شهد الكنيست الصهيوني يوم الأحد 29 أيار/مايو الفائت، وبعد أقل من أسبوعين على أوسع اجتماع رسمي صهيوني مع جماعات الهيكل، إطلاق لوبي "الحرية اليهودية على جبل الهيكل" لتعزيز السيطرة على المسجد الأقصى وتعزيز الحضور اليهودي الديني فيه.
وقد أعلن تأسيس اللوبي 3 أعضاء من حزب الليكود الحاكم هم نِسيم فيتوري وآرييل كيلنر ودان إيلوز، وهم يشاركون جميعاً في اقتحامات المسجد الأقصى المبارك بشكل منتظم.
يمكننا القول إنَّ هذا المسار الجديد "الانقلابي" الذي يتجاوز أنماط التعامل الإسرائيلي القديمة "الهادئة" نسبياً، والذي تنتهجه حكومة نتنياهو اليمنية، ربما يؤدي عربياً، إن ترِك له الحبل على غاربه، إلى المساس بالحقوق العربية الإسلامية والإضرار بها، وإلى التباس الوعي والإحباط النفسي لدى شرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني والعربي أيضاً، نتيجة كسر حواجز ما اعتادت "إسرائيل" تسميته "المحافظة على الوضع القائم" في كل قضايا الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلى رأسها المسجد الأقصى والقدس، وبما قد يهيئه هذا "الكسر" من مناخاتٍ محبِطة في حال حدوث جولات صراع مستقبلية مع العدو.
يدرك الجميع قوة المفردات والأفكار وأهميتها في تكوين العالم الذي نعيش فيه. وفلسطينياً وعربياً، لا يجوز الاستمرار في استخدام المفردات والأدوات "النضالية" القديمة ذاتها للتعبير عن العلاقة السائدة بين "إسرائيل" من جهة والفلسطينيين والعرب من الجهة الأخرى، في ظل المتغيرات الجديدة التي حدثت، ولا تزال تحدث، في "إسرائيل" بعد وصول اليمين العنصري إلى الحكم، بل يجب ترسيخ إطارٍ سياسي يتوافق مع "مقتضيات المرحلة" من خلال تغيير المصطلحات والمفاهيم السياسية التي كانت سائدة، مثل "اشتباك سياسي" و"إحراج العدو" و"مقاومة سلمية"، و"شرعية دولية"...
هذا التغيير الذي يجب أن يطال مفاهيمنا وأدواتنا واستراتيجيتنا النضالية هو ضرورة وطنية ملحة لنكون قادرين على مواجهة "قضايا صراع عسكري" ناتجة من "نزاعٍ حول الأرض"، وليس صراعاً على حاجات إنسانية ومطالب خدماتية من الاحتلال.
يجب أن توضح المسارات والأدوات النضالية الجديدة أنَّنا أمام "حالة" تدرك التداعيات "المحلية الإقليمية والدولية" للموقف من حكومة نتنياهو ومدى خطورتها، إذ يأتي تغيير الأدوات بهدف منع "تطويعنا" وإقناعنا بمواجهة الحقيقة وتقبل الواقع كما هو، ليتحقق لبن غفير واليمين الصهيوني الفاشي ما يريد.
في الواقع، إنَّ تغيير أدوات ومسارات النضال في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو ما نحتاجه لنمضي قدماً في مشروعنا التحرري، والأهم ألا تأتي عفويةً، بل أن تعبر عن عدم الاستسلام "للعجز" الذي يراد له أن يصيبنا ويطوقنا.
يجب أن نمتنع عن أن تساهم ثقافتنا السياسية والحزبية في إعادة إنتاج الأنماط والمسارات القديمة الفاشلة ذاتها في التعامل مع "الواقع الصهيوني الجديد" الذي يتجاوز حدود "المألوف"، ومنها موقف اليهودية القومية الدينية من المسجد الأقصى على وجه الخصوص، وفلسطين والعرب على وجه العموم.
لم يعد خافياً عن أحد ما يجري من استهدافٍ لقيمنا وحقوقنا، واستخفافٍ واضحٍ بإرثنا التاريخي الديني في القدس وغيرها. إن التغيير هو استراتيجيةٌ مهمةٌ وواضحة لا بد من انتهاجها للكشف عن الأدوات القديمة التي لا يحتاج بعضها إلى تعديلٍ فحسب، بل اجتثاث من الجذور أيضاً، ذلك أننا لا نريد نقل الخيبة من زمانٍ إلى آخر لنبقى، للأسف، نراوح مكاننا من دون أي انعكاساتٍ إيجابية على قضيتنا التي نتمنى أن تتقدم ويعلو شأنها لتقودنا إلى التحرر والانعتاق من الاحتلال.
إننا بحاجةٍ إلى تحرير أنفسنا من قيم "العجز" البالية التي تحمل في مضامينها الانكفاء وتمجيد الفشل ورفض التعايش معها تحت أي ظرف. نريد استراتيجيةً أكثر قدرةً على التعامل مع المتغيرات الحالية من حولنا، لكن هذه الحاجة إلى سياسةٍ جديدة ليست مسؤولية الأنظمة وحدها، ولا مسؤولية الأحزاب والنخب فحسب، إنما هي مسؤوليةٌ مشتركة بين الدول والأحزاب، بل والأفراد، وإلا فإننا سنستمر في السقوط من المنعطفات الخطرة في الوادي السحيق نفسه الذي سقط فيه سكان القرية اليمنية وهم يكررون اتباع حميرهم!