مستقبل أوروبا في ضوء التظاهرات الفرنسية
لا تختلف الأوضاع العامة في فرنسا كثيراً عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها أوروبا، وإن كانت قد اتخذت منحى عنيفاً أكثر في فرنسا، وأدّت إلى قيام تظاهرات عارمة.
لم تكد التظاهرات في فرنسا بسبب رفض إصلاح نظام التقاعد الذي أقرّته حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تهدأ حتى بدأت موجة جديدة من العنف على خلفية قتل الشرطة الفرنسية مراهقاً وانتشار فيديو يظهر أنَّها قتلته من دون أن تكون هناك حاجة إلى ذلك، إذ لم تكن حياة الشرطي مهددة.
في السنوات السابقة، عرفت فرنسا تظاهرات كبرى عرفت باسم "السترات الصفراء"، التي خرجت بعد قيام الحكومة بفرض ضريبة إضافية على الوقود لتمويل العجز في الخزينة، على الرغم من الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
وكان استطلاع للرأي نُشرت نتائجه في شهر نيسان/أبريل الماضي قد أشار إلى أن أكثر من 70% من الفرنسيين غير راضين عن أداء ماكرون الذي تقترب شعبيته من أدنى مستوياتها، وأبدى نحو 26% فقط من المشاركين رضاهم عن أدائه، بتراجع نقطتين مقارنة باستطلاع مماثل في آذار/مارس 2023.
واقعياً، لا تختلف الأوضاع العامة في فرنسا كثيراً عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها أوروبا، وإن كانت قد اتخذت منحى عنيفاً أكثر في فرنسا، وأدّت إلى قيام تظاهرات عارمة، فيما تبدو المدن الأوروبية الأخرى أكثر هدوءاً، لكن يبدو مشهد الهدوء الأوروبي كأنه نارٌ تحت رماد لا تُعرف شرارة انفجاره، ويخفي تحته ما يلي:
أزمة اقتصادية اجتماعية
عانى الاقتصاد العالمي بشكل عام، والاقتصاد الأوروبي بشكل خاص، تداعيات الإقفال الذي فرضته جائحة كورونا، ثم أتت الحرب الأوكرانية لتفرض صعوبات من نوع آخر على الأوروبيين الذين عانوا بفعل ارتفاع أسعار الكهرباء والطاقة، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، والتضخم غير المسبوق الذي دفع المصارف المركزية إلى رفع أسعار الفائدة لكبحه، وهو ما قد يؤدي إلى ركود تضخمي في السنوات القادمة.
ولا شكّ في أن الطبقات الفقيرة والمتوسطة هي الأكثر تأثراً بهذه التداعيات، إذ تقتطع المصاريف الأساسية الثابتة الجزء الأكبر من الرواتب، ما يجعلها تتجه إلى التصويت الاعتراضي (لليمين المتطرف) أو الخروج في تظاهرات ضد السلطة أو غير ذلك.
وفي اتجاه موازٍ، تُثار الشكوك لدى العديد من المزارعين في جميع أنحاء أوروبا، إذ يرون أن سياسات الاتحاد الأوروبي تريد إفقارهم وتجويعهم، معتبرين أنَّ "بيروقراطيي الاتحاد الأوروبي بدأوا في هولندا، وسيأتون إليهم لاحقاً".
ويتظاهر المزارعون في هولندا منذ أشهر، بعدما صدرت قرارات حكومية مدعومة من مؤسسات الاتحاد الأوروبي تسعى لإجبارهم على بيع أراضيهم، وخفض أعداد الثروة الحيوانية التي يملكونها بنسبة 30%، وإقفال مزارعهم طواعية (في مقابل بدل مادي)، لخفض انبعاثات النيتروجين والوفاء بتفويض الاتحاد الأوروبي بشأن أهداف المناخ.
الإنفاق الدفاعي
فرضت الحرب الأوكرانية وسياسة حلف الناتو على الأوروبيين زيادة الإنفاق الدفاعي وتمويل الحرب الأوكرانية وإمداد أوكرانيا بالمساعدات العسكرية والأموال وسواها، ما يعني زيادة كبرى في الإنفاق الدفاعي لم تعرفه القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية.
ولا شكّ في أن تعهّد الأوروبيين بإنفاق دفاعي يلامس عتبة 2% من الناتج القومي -كما تنص معاهدة الناتو- سيحرم الخزائن الوطنية من موارد مالية مهمة كان يمكن إنفاقها على الخدمات العامة لتحسين مستوى معيشة السكان من الطبقات المتوسطة والفقيرة، وسيقوّض القدرة على الإنفاق على القطاعات الأخرى، كالصحة والتعليم وسواهما.
ارتفاع الشعبوية
يعاني الغرب بشكل عام انقساماً مجتمعياً وسياسياً يتمحور حول القيم والحريات والمُثل وغيرها. من جهة، هناك اليمين المتطرف الذي ترتفع أسهمه بشكل كبير، والذي يركّز على الهجرة، باعتبارها إحدى أسوأ الكوارث التي تعيشها أوروبا.
يقوم هذا التيار بتحميل السلطات الأوروبية المتعاقبة مسؤولية فتح باب الهجرة، وخصوصاً من الشرق الأوسط وأفريقيا، ويحمّل المهاجرين مسؤولية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وينبّه من "خطورة تغيير وجه أوروبا الحضاري"، ويحذّر من فقدان الهوية الأوروبية.
في المقلب الآخر، ترتفع شعبوية ليبرالية يسارية تهدف إلى تكريس المثلية الجنسية وتغيير الجنس، ولكنها تجد رفضاً من اليمين والعديد من الفئات المتدينة، ما يخلق انقسامات مجتمعية حادّة.
في النتيجة، تعيش الشعوب والحكومات الأوروبية اليوم على وقع الصراع الدولي القائم في أوكرانيا، الذي يمكن أن يتمدد إلى أماكن أخرى ويستمر لسنوات. وفي هذا الإطار، يبدو من الأفضل للأوروبيين أن تنتهي الحرب الأوكرانية بسرعة، فكلما طال أمدها كانت تداعياتها أكبر على الاتحاد الأوروبي، وقد تصل إلى تهديد وحدته.