مسار جديد للوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة
شعبنا الفلسطيني متيقّن من أنَّ الانتصار على الأعداء لا يمكن أن يتحقق فيما الصفوف ممزقة منقسمة متنافرة، وهذا ما حدث مع كل الشعوب الثائرة: لا انتصار من دون وحدة وطنية.
هناك مصطلح شاع منذ سنوات، لنقل إنها قليلة، هو مصطلح "الذئاب المنفردة" الذي أُطلق في وصف عمليات فلسطينية منفردة بطولية يتميّز منفّذوها بشجاعة يمكن وصفها بالخارقة تخطيطاً وتنفيذاً وجسارةً، ومواجهة النتائج في الاشتباك مع أجهزة الاحتلال، والجاهزية لدفع أغلى ثمن: التضحية بالحياة بنفس راضية، بعد أن حقق بطل العملية الفلسطينية، ولا أقول المنفرد، خطته في إيقاع أفدح الخسارات الأمنية والنفسية والمادية بالعدو وكيانه الذي قام على الوهم منذ البداية، وراكم أعتى وسائل القوّة، وما زال، في حلبة الصراع مع عرب فلسطين، وما زالت القضية الفلسطينية تملأ أسماع العالم، ما يعني أنّ المشروع الصهيوني لم يستقر، والسبب أن عرب فلسطين لم يندثروا ويذوبوا ويختفوا فيزيائياً بين الشعوب، كما أمّل مؤسّسو الصهيونية.
وضع الصهاينة أيديهم على 78% من أرض فلسطين في ختام حرب العام 1948 وهزيمة 7 جيوش مسكينة عدداً وعدّة وعتاداً، تسلّموها بمكر ودهاء وتآمر ودعم بريطاني بلا حدود، تسليحاً وتخطيطاً لهم وقهراً وقمعاً وإفقاراً ومطاردة وإعدامات لثوار فلسطين، وبقيت عيون الصهاينة تراقب الفلسطينيين وتتابعهم وتتآمر عليهم برعاية أميركية من الإدارات الشريكة الرئيسية في المؤامرة والجريمة، واستخذاء حكّام "عرب" كان همهم، وما زال، تدمير قدرات الفلسطينيين وإحباطهم، وإنزال المصائب بهم، بحيث ينفضون أيديهم من قضيتهم.
ولكن هذا الهدف الاستراتيجي الجهنمي لم يتحقق على مدى عقود، وما زال الصراع محتدماً، فلم ييأس شعب فلسطين في ميدان المعركة، ولم يستقر الكيان الصهيوني على أرض لم تكن له يوماً ولن تكون.
عرب فلسطين، رغم كلّ ما مرّوا به وما عانوه، لم تتزعزع قناعتهم بعودتهم إلى فلسطين وبعودة فلسطين لهم، وبأن فلسطين عربية، ومن دونها لا تواصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه، أي أنَّه لا وطن عرب واحد موحد سيّد قوي من دون تحرير فلسطين.
ولهذا، ثبت عرب فلسطين في الخط الأمامي من ميدان المعركة، وحافظوا على نار فلسطين مشتعلة تضيء وتنير وتُرشد من يرفعون أبصارهم صوب أرض المعركة وميدانها، وتكشف نارها مَنِ الصديق ومَنِ العدو، وفلسطين كانت دائماً هكذا وستبقى حتى تتحرر تماماً ويخرج القطار من القدس وحيفا ميمماً طريقه إلى القاهرة وكل بلاد العرب الأفريقية، كما كان الأمر قبل مؤامرة تسليم أغلبها لليهود الصهاينة.
إن شعبنا مؤمن بعروبة فلسطين وبحتمية تحريرها وبعودة من هم خارجها إلى مدنهم وقراهم، ليبنوها ويعمروها ويزرعوا أرضها، ويجعلوها لائقة بتضحيات ودم ودموع وآلام كلّ من قاوموا لأجلها، من نساء فلسطين ورجالها وكل العرب الذين سقى دمهم أرضها، وما زالت عظامهم وستبقى مغروسة في ثراها.
شعبنا لن ييأس، والدليل هو أنّ أكثر من 100 سنة مرّت على بدء الصراع مع بريطانيا المجرمة، مؤسسته وراعيته، ومع الحركة الصهيونية، ومع أميركا وارثة الدور البريطاني، وها قد دخلنا في المئوية الثانية من الصراع، وما زال مستمراً، وسيبقى حتى التحرير الناجز والعودة المظفّرة بانتصار أحرار العرب المقاومين وشرفائهم وثوّارهم وكنس المشروع الصهيوني.
ولكن هذا الانتصار له شروط نعرفها، في مقدمتها الوحدة الوطنية التي تعد ضمانة تحقق النصر التاريخي الحاسم من دون مساومة مع العدو الصهيوني ورعاته الذين يحضرون معاً في الميدان تآمراً على فلسطين وكل الوطن العربي.
الحتمية التاريخية لا تتحقق وحدها بلا جهد مكلف، وبلا وعي، وبلا تضحية. هذا ما وعاه شعبنا وأحرار الأمة وشرفاؤها، وهكذا استمرت المعركة وخاضتها الأجيال جيلاً وراء جيل. ولهذا، لم يهنأ العدو الصهيوني وكيانه ورعاته، رغم كل ما لديهم من أسلحة ومال من أميركا والغرب، وفي الآونة الأخيرة من حكّام التطبيع المتحكّمين في ثروات الأمة.
شعبنا بخبراته متيقّن من أنَّ الانتصار على الأعداء لا يمكن أن يتحقق والصفوف ممزقة منقسمة متنافرة، وهذا ما حدث مع كل الشعوب الثائرة: لا انتصار من دون وحدة وطنية. هذه القاعدة ثابتة لا يمكن تجاوزها.
أحسب شخصياً، وهذا ليس اجتهاداً شخصياً، أن العمليات الفردية؛ عمليات "الذئاب المنفردة"، كما توصف، هي تجاوز للانقسام، بل رفض لثبات وديمومة الحالة التي تسبّبت بالضعف والارتباك وإتاحة الفرص لكلِّ العابثين بالقضيّة الفلسطينية واللاعبين على الخلافات الفلسطينيّة وتأجيجها.
إنّني كمتابع ومنخرط عضوي في المقاومة الفلسطينية على يقين بأنَّ هؤلاء الأبطال محرضون على التجاوز بالفعل لا بالأقوال، وأنهم يشقّون طريقاً تجاوزياً للوحدة الوطنية في الميدان بالبطولات المبهرة والدم وإيقاع أفدح الخسائر بالكيان الصهيوني و"جيش" احتلاله المجرم الخارج على كل القيم، والمتمتع بأحطّ الأخلاق الوحشيّة في ممارساته.
هؤلاء الأبطال منظّمون قطعاً، ولكن كيف؟ هذا شأنهم، وهذا إبداعهم. لذا، هم ليسوا ذئاباً منفردة، بل أبطال ينتمون إلى شعب، ويصونون تراثه الثوري، ويراكمون بطولات على بطولاته، وينازلون عدواً يلحقون به ضربات تزعزعه وتفقده اليقين بالبقاء على أرض فلسطين، لأن شعب فلسطين لا يمكن أن يُهزم، ولأنه ينتمي إلى أمة حيّة، رغم تآمر المتآمرين المُنصّبين حكاماً؛ الذين يفتحون أراضي وسماوات عربية لعدو الأمة، انطلاقاً من مصالحهم كعائلات حاكمة لا شرعية لها.
شعب فلسطين يجدّد باستمرار أساليبه الكفاحية الثورية المقاومة. ولنتأمّل جيداً ما يبدعه أبطال هذا الشعب العربي العريق في السجون، وفي ابتكاراته العمليات المنفردة وغير المنفردة، ولنكن على ثقة بأنَّ فلسطين ستبقى الدينامو المولّد للثورة والمجدد لها، لا على ثرى فلسطين فحسب، ولكن على امتداد الوطن العربي كله أيضاً، وحيث توجد قوى عدوان ناهبة وعملاء يطبعون ويخونون.
ختاماً: نحن أمام مسار جديد للوحدة الوطنية الفلسطينية، فلا تيأسوا!