"وعي التفاؤل بالهزيمة"

هي مرحلة لا ننكر فيها أن محور المقاومة تكبد خسائر كبيرة، لكن ذلك ليس أكثر من ريح عابرة تهز شجرة ضخمة فتسقط بعض ثمارها، لكن الريح ما تلبث أن ترحل وتبقى الشجرة شامخة.       

0:00
  • يحاول العدو اختراق وعي تراكم على مدى سنوات بإمكانية النصر والتحرير.
    يحاول العدو اختراق وعي تراكم على مدى سنوات بإمكانية النصر والتحرير.

في مقال مهم للكاتب محمد فرج تحدث عن "وعي الهزيمة" الذي يحاول العدو نشره، على وقع الأحداث التي اجتاحت المنطقة مؤخراً. وعي الهزيمة يساوي القبول بها، تحت لافتة القبول بالأمر الواقع أو لافتة القوة المطلقة للعدو. فالمعادلة، حسب منطق هؤلاء، يمكن اختصارها بجملة واحدة "العين لا تقاوم المخرز".

على مدى شهر تقريباً، وعلى وقع صور المجازر في مدن قطاع غزّة، ارتكب الإعلام بمثقّفيه ومحلّليه وسياسيّيه مجزرة بحق وعي الناس، الذين تسمّروا أمام أجهزة التلفزة لمتابعة التطورات في لبنان وفلسطين وسوريا.

فمن ناحية، تحتل أخبار حكومة الأمر الواقع التي فرضتها الجماعات المسلحة على سوريا الصدارة، ويبدع المحلّلون في التأكيد أن هذا "الانتصار" يعني فك ارتباط سوريا بمحور المقاومة، بل وتقطيع أوصال هذا المحور جغرافياً، وتنهال صور ولقاءات المحررين من سجون النظام.

ومن ناحية أخرى، سارع المثقفون إلى نقل البندقية من كتف إلى أخرى، معلنين بشتى الوسائل توبتهم، واعتذارهم عن وقوفهم إلى جانب محور المقاومة، ويطالبوننا بقبول الأمر الواقع بصفته نهاية التاريخ في منطقتنا. 

لقد وصف الكاتب محمد فرج بدقة هذه المحاولات لنشر "وعي الهزيمة"، فما يحدث يتجاوز نقل الأخبار والتعليق عليها، ويتجاوز رصانة المحلّلين الذين يستخدمون فخامة اللغة وتداخل العبارات والألفاظ الرنانة ليلتفّوا حول المنطق والحقيقة.

فقد تستمع إلى تحليل لمدة ساعة يتناول الأوضاع في سوريا من دون أن يعرج على التاريخ الإرهابي للجماعات المسلحة، أو الاحتلال الإسرائيلي لجنوب البلاد الذي يرى البعض أنه يأتي في الدرجة الثالثة بعد السيطرة على الأمن وتثبيت وحدة البلاد، من دون أن يسعفنا بالحل السحري الذي يحقق وحدة بلاد تحتل تركيا شمالها، والولايات المتحدة شرقها، و"إسرائيل" جنوبها، فالوحدة كما يراها هؤلاء هي وحدة المجموعات المسلحة تحت راية إدارة العمليات العسكرية.

يحاول العدو اختراق وعي تراكم على مدى سنوات بإمكانية النصر والتحرير، وأن العدو مهما بدا قوياً إلا أنه أوهن من بيت العنكبوت. فلنبدأ إذاً بشطب التاريخ، نرفع أسماء الشهداء عن المستشفيات والمدارس، نشطب اسم "تشرين" من الثقافة فنغيّر اسم الصحيفة والجامعة والمستشفى، ونشطب من التاريخ شهداء 6 أيار، وفي ذروة تقدم "جيش" العدو في عمق الأرض والسيطرة على كل مصادر المياه، نتحدث عن الخطر الإيراني، ونطالب إيران بعدم التدخل في شؤون سوريا الداخلية. 

في سياق خلق الوعي الجديد لم تكتف الدوائر الاستعمارية بنشر "وعي الهزيمة"، بل ابتكرت شيئاً جديداً هو "وعي التفاؤل بالهزيمة". هم يقولون لنا إن التغيير الذي حدث في المنطقة يحمل بذور الوحدة والديمقراطية وحقوق الإنسان والإعمار والرفاه الاقتصادي.

المقاومة هي عنوان للديكتاتورية، والحرب، والأزمات الاقتصادية، أما "التحرير" فيعني سقوط الديكتاتور، ووقف الحرب، وتحسن سعر صرف الدولار وتوفر البضائع والمساعدات. في هذه المعادلة المقلوبة تغيب معاني السيادة والكرامة الوطنيتين، ويتحوّل الوطن إلى قطعة من الأرض الهدف منها الحصول على أكبر قدر من المال والرفاه.

لا يكتفي هؤلاء بالوعود المتفائلة، بل يبادرون إلى خطوات عملية على الأرض، فبعد شاحنات المساعدات التي تتدفق من كل حدب وصوب، وتوفر المشتقات البترولية بين ليلة وضحاها بعد أن كانت هذه المشتقات سبباً من أسباب معاناة المواطنين، تأتي الأخبار عن عمليات الربط الكهربائي بين تركيا وشمال سوريا وبشكل خاص منطقة حلب، والربط الكهربائي مع الأردن في الجنوب، وهو المشروع الذي حاول وزراء الطاقة في الأردن ولبنان ومصر وسوريا تحقيقه على مدى السنوات الخمس الماضية، لكن قانون "قيصر" وقف لهم بالمرصاد.

بالتأكيد، ينتظر لبنان أن يناله "من الحب جانب" في ما يتعلق بالكهرباء من جهة، وجهود إعادة الإعمار من جهة أخرى، لكن ذلك مرتبط بالخطوة الأخيرة لتكريس النصر الاستعماري والمتمثلة بانتخاب رئيس لبناني جديد بمواصفات المرحلة.

ولنشر المزيد من "وعي التفاؤل بالهزيمة"، تعلن السعودية عن عودة اهتمامها بالملف اللبناني، وتعيين الأمير خالد بن سلمان، شقيق ولي العهد، مسؤولاً عن هذا الملف.

تنهال البضائع التركية والأوروبية على الأسواق، وتحسن سعر صرف العملة المحلية أمام الدولار مستمر، والوعود بزمن السمن والعسل تأتي من جميع الاتجاهات. بالتأكيد، ليست لحظة السقوط السوري شبيهة بلحظة السقوط السوفياتي بما حملته من دوي هائل على مستوى العالم، لكنها لا تقل عنها أثراً في ما يتعلق بمنطقتنا. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، كانت الناس تواجه الشيوعيين بجملة "الشيوعية سقطت في بلادها"، واليوم لسان حال الإعلام والكثير من المثقفين يقول "المقاومة سقطت في بلادها".

لم تسقط المقاومة، لأنه ببساطة لا يمكن لها السقوط فهي عقيدة لدى الشعوب، تنبع من الدين أو القومية أو التاريخ أو منها جميعاً.

من ظلام الهزيمة والاحتلال تجد المقاومة قبساً من نار تشعل منه جذوتها، وتاريخ أمتنا حافل بمثل تلك اللحظات، ألم تبزغ أشرف ظاهرة مقاومة في تاريخنا الحديث، ممثلة بحزب الله من ظلام الغزو الصهيوني للبنان عام 1982 ووصوله إلى العاصمة بيروت، ألم ينهض طائر العنقاء الفلسطيني من ركام التسويات والاتفاقيات الإبراهيمية والتنسيق الأمني المقدس ليكون طوفاناً يجرف كل من يقف وجهه، ألم ينهض سد مأرب شامخاً من تحت ركام سنوات من الحصار والحرب ليلقن العالم كله دروساً في الاستراتيجيا والقدرة على الانتصار!

هي مرحلة لا ننكر فيها أن محور المقاومة تكبد خسائر كبيرة، لكن ذلك ليس أكثر من ريح عابرة تهز شجرة ضخمة فتسقط بعض ثمارها، لكن الريح ما تلبث أن ترحل وتبقى الشجرة شامخة.