ما بعد 25 تموز/يوليو.. الجيش التونسي والتحدي الجديد
الجيش التونسي بات يواجه حالياً تحدياً جدياً قد يجعله فعلياً طرفاً سياسياً فاعلاً في تونس، خلال المرحلة المقبلة.
ربّما كانت المؤسسة العسكرية التونسية هي المؤسسة الأقل انخراطاً في الشأن السياسي الداخلي، بين كل المؤسسات العسكرية العربية، التي وجدت نفسها أمام تحديات مستحدَثة فرضتها تداعيات ما يُعرَف بـ"الربيع العربي". إلاّ أن الجيش التونسي بات يواجه حالياً تحدياً جدياً قد يجعله فعلياً طرفاً سياسياً فاعلاً في تونس، خلال المرحلة المقبلة.
في السنوات التي سبقت ثورة عام 2011 في تونس، كان تأثير المؤسسة العسكرية في الداخل التونسي محدوداً للغاية، على عكس تأثير المؤسسات العسكرية في دول عربية أخرى، مثل سوريا والعراق ومصر. لقد ظلّ الجيش التونسي، منذ تأسيسه، متوارياً في ثُكَنه، باستثناء تدخّله، على نحو مباشِر، مرَّتين دعماً للسلطة في مواجهة الاحتجاجات الشعبية. الأولى خلال أحداث كانون الثاني/يناير 1978، والتي شهدت مواجهات بين الاتحاد العام التونسي للشغل والسلطة آنذاك. والثانية خلال أحداث "ثورة الخبز" عام 1984. عدا هاتين المناسبتين، كانت المؤسسة العسكرية التونسية على الحياد، على مدى العقود الماضية، حتى خلال التوترات التي شابت الداخل التونسي عام 2003، والتظاهرات العمالية التي شهدتها ولاية قفصة عام 2008، واستمرت نحو ستة أشهر.
لماذا يحظى الجيش بإجماع داخلي؟
ساهمت سياسة "إضعاف المؤسسة العسكرية"، والتي اتّبعتها السلطات التونسية المتعاقبة، وخصوصاً نظام زين العابدين بن علي، في إبقاء قدرات الجيش التونسي في نطاق محدود، خلال العقود الماضية، بهدف تجنُّب أيّ دعم محتمل من الجيش للاحتجاجات العمالية التي شهدتها البلاد، بصورة متقطّعة، خلال تسعينيات القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الحالي. لذا، تمّ إبقاء مؤسسة الجيش بعيداً عن اتخاذ القرارات الاستراتيجية الرئيسية، وظلّت تفتقر إلى الموارد نتيجة الميزانية المتواضعة للغاية مقارنةً بميزانية وزارة الداخلية، التي اضطلعت - بطبيعة الحال - بدور أكبر من المؤسسة العسكرية في الداخل التونسي، فلقد كانت هذه الأجهزة عاملاً أساسياً، خلال فترة ما قبل ثورة عام 2011، في لجم التفاعلات الحزبية والنقابية، والتي كانت تنفجر كل فترة في تونس نتيجة للضغوط السياسية والاقتصادية. وهذا كان واضحاً، على نحو كبير، خلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد خلال المرحلة الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
بصورة عامة، تحظى مؤسسة الجيش التونسي بنوع من الإجماع الداخلي، نتيجة عدة اعتبارات، بينها عدم وقوفها إلى جانب الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وعدم تورُّطها في قمع الاحتجاجات في أثناء الثورة. وكان هذا الموقف من أهم محدِّدات العلاقة بين المؤسسة العسكرية والقوى السياسية والمدنية في تونس بعد الثورة. والمفارقة هنا أن موقف المؤسسة العسكرية خلال الثورة كان نتيجة طبيعية لسياسات تهميش دورها على مدى العقود الماضية، ومنح المجال أكثر للقوى الأمنية، بحيث تسبَّبت الإجراءات التي اتَّخذتها هذه القوى، وخصوصاً في ولاية سيدي بوزيد، التي شهدت في الرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 2011 حدثاً يُعَدّ من أبرز الأحداث الدامية خلال أحداث الثورة، حين فتحت قوة من الشرطة التونسية - وتحديداً من قوات الحرس الوطني - النار على بعض المتظاهرين، الأمر الذي أسفر عن مقتل متظاهر وإصابة آخرين. وتكرَّر هذا المشهد بعد ذلك في عدة مدن أخرى، وكان من أهم أسباب تصاعد التظاهرات، وتحوُّلها إلى ثورة شاملة.
في هذه الفترة، كانت المؤسسة العسكرية تنخرط بصورة أساسية في واجب حماية المؤسسات السيادية والحكومية، وقامت بهذا الدور على الرَّغم من النقص الكبير في الأفراد والتجهيزات، إلى درجة دفعتها إلى الاستعانة بطلاب الكليات والمعاهد العسكرية التونسية، من أجل توفير الحماية للمباني المهمة والمناطق الحيوية.
جعل تطور الأحداث المؤسسة العسكرية تقف في مواجهة مؤسسة الرئاسة، وإلى جانبها الحرس الرئاسي، بحيث كانت الأولى ترى أنها لا يمكن أن تشارك في قمع الاحتجاجات بالقوة، في حين كان الطرف الآخر يرى وجوب القيام بهذه المهمة. أدّى موقف المؤسسة العسكرية، في النهاية، إلى فرض الفريق أول رشيد عمار، رئيس أركان الجيش، رأيَ المؤسسة العسكرية ميدانياً، بحيث لم تشارك وحدات الجيش في قمع الاحتجاجات، وقامت أيضاً بمواجهة قوات الأمن ومنعها من الاستمرار في قمع المتظاهرين.
هذا الموقف كان من الأسباب الموجبة لرحيل الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، بحيث ضغطت المؤسسة العسكرية عليه لمغادرة البلاد، وتصدّت لمحاولة قائد الحرس الرئاسي علي السرياطي وضعَ اليد على مقاليد السلطة في البلاد. وهنا كان التحدي الأول الذي واجه الجيش التونسي، وهو الاستمرار في السيطرة بصورة شاملة على الأمن الداخلي في البلاد، بعد هذه التطورات الجذرية، ومن ناحية أخرى إنهاء أيّ محاولات لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وخصوصاً من بعض مناصري زين العابدين بن علي، وكذلك بعض ضباط الحرس الرئاسي.
بعد رحيل بن علي
بعد رحيل بن علي، اكتسبت المؤسسة العسكرية التونسية بعضَ النقاط الإضافية المهمة، بسبب حرصها على اتِّخاذ موقف حيادي، وعدم التدخل في شؤون الحكم، مكتفيةً بالمراقبة واحترام الشرعية والدستور والانتخابات. وهو ما عزّز الفكرة السائدة عن الدور الحيادي للجيش في الحياة السياسية، إلاّ أن دوره في هذه المعادلة بدأ يلقى بعض الانتقادات منذ عام 2012، على خلفية تصاعد أعمال العنف والإرهاب في البلاد: بين تصاعد أنشطة المجموعات الجهادية السَّلَفية، نتيجة لإطلاق مناخ الحريات السياسية في البلاد، وبين تزايد وتيرة العمليات الإرهابية في عدة مناطق.
كما شملت هذه الانتقادات نقدَ دور القضاء العسكري التونسي في سنوات ما بعد عام 2011، من خلال محاكمة المسؤولين الأمنيين عن قتل المتظاهرين خلال أحداث الثورة. انتقادات أخرى طالت مؤسسة الجيش، من عدة قوى سياسية تونسية، بسبب التزامه الحيادَ خلال التفاعلات السياسية التي شهدتها البلاد عامي 2012 و2013. وهي تفاعلات وصلت، في بعض الأحيان، إلى مستوى الأزمات السياسية، بين حزب "النهضة" من جهة، والأحزاب المشاركة معه في الائتلافات الحاكمة عَقِبَ انتخابات عامي 2014 و2019 التشريعية، من جهة أخرى.
الجانب الأمني الداخلي كان التحدي الأساسي الذي واجه المؤسسة العسكرية التونسية خلال أعوام ما بعد الثورة. فخلال تلك الفترة كان تركيز المؤسسة العسكرية التونسية منصبّاً، بصورة أساسية، على مكافحة الإرهاب، نظراً إلى تصاعد التوترات الميدانية في ليبيا، وإقدام السلطة الجديدة في تونس على العفو العام عن بعض القادة السَّلَفيين الجهاديين البارزين. فواجهت هذه المؤسسة أنشطة جماعة "أنصار الشريعة" - إحدى الجماعات المنتمية إلى تنظيم "القاعدة" - التي نفّذت عدداً من الهجمات الإرهابية داخل البلاد، على رأسها الهجوم على السفارة الأميركية في سبتمبر/أيلول 2012. كما شكّلت الاغتيالات السياسية، والتي ضربت البلاد عام 2013، تحدياً جدياً أمام الجيش والمؤسسة الأمنية، وطالت تلك الأخيرة عدةُ هجمات إرهابية خلال عامي 2013 و2014، ناهيك بأنشطة إحدى الجماعات الأخرى المنضوية تحت لواء تنظيم "القاعدة"، وهي جماعة "كتائب عقبة بن نافع"، التي نشطت على طول الحدود مع الجزائر، وكذلك جماعة "جند الخلافة" المرتبطة بتنظيم "داعش"، والتي نفّذت سلسلة من الهجمات الإرهابية، كان أعنفها الهجوم على متحف باردو ومنتجع سوسة عام 2015.
وأدّت عمليات الجيش التونسي، منذ عام 2015، إلى تقليص عدد من الشبكات الإرهابية وتفكيكها، وخصوصاً بعد قتل وحدات الجيش عام 2015 زعيمَ "كتائب عقبة بن نافع"، خالد الشايب، في عملية عسكرية قرب الحدود الجزائرية.
واجهت الأجهزة الأمنية التونسية، بدورها، تحديات كبيرة بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011، تتعلق باهتزاز شرعيتها وانعدام التوافق السياسي بشأن دورها، بحيث باتت التعيينات في السلك الشرطي في روافده (الشرطة - الحرس الوطني - السجون والإصلاح) بمثابة ساحة للتراشق السياسي، على نحو جعل مسألة إصلاح هذه الأجهزة أكثر صعوبة، على الرغم من تعدد المحاولات الحكومية لتحقيق ذلك، ومنها إقالة رئيس الحكومة الأسبق الحبيب الصيد أوائل عام 2015، وإقالة عدد من قيادات الشرطة، بينها رئيس شرطة العاصمة، بعد فشلها في التعاطي مع التهديدات الأمنية والإرهابية في البلاد، بالإضافة إلى التغييرات التي طالت المؤسسة الأمنية خلال فترة تولي حكومة هشام المشيشي المسؤولية. يُضاف إلى ذلك وضع الحكومات المتعاقبة قيوداً كبيرةً على حرية حركة هذه الأجهزة، وخصوصاً بعد موجة الاغتيالات التي ضربت البلاد عام 2013.
صورة أوضح خلال الأسابيع المقبلة
القرارات الأخيرة التي أصدرتها الرئاسة التونسية في الخامس والعشرين من تموز/يوليو الماضي، تمّت بتنسيق واضح مع المؤسستين العسكرية والأمنية، وخصوصاً أنها صدرت عقب اجتماع موسَّع جمع الرئيس التونسي قيس سعيد وقياداتِ هاتين المؤسستين. وهذا كان واضحاً من خلال الانتشار السريع لوحدات الجيش في مواقع مهمة من البلاد، وإمساكها بالملف الأمني على نحو فعّال، ونجاحها في منع أيّ اشتباكات واسعة في محيط مبنى البرلمان، بعد أن حاول بعض النواب دخوله في اليوم التالي لقرارات الرئاسة التونسية.
وهنا، يجب ملاحظة أن الوحدات الأمنية التونسية لم تشتبك مع المتظاهرين الذين هاجموا مقارَّ حركة "النهضة"، في معظم الولايات الشمالية والوسطى للبلاد، إلاّ في مرّات نادرة. ولم تكرّر هذه الوحدات أخطاء عام 2011. وهذه كانت خطوة جيدة في المستوى التكتيكي، ستسمح في المدى المنظور بتسريع عملية إصلاح المؤسسة الأمنية، وهذا يُعَدّ من الأهداف الرئيسية للرئيس التونسي في المرحلة الحالية، ويَظهر بصورة أكبر من خلال قراره تكليفَ مستشاره للشؤون الأمنية رضا غرسلاوي مُهِمّات وزير الداخلية. والمفارقة هنا أن الحرس الرئاسي أدّى دوراً أساسياً في تنظيم وزارة الداخلية وإدارتها، عقب قرار تعليق عمل البرلمان وإقالة الحكومة. وهو دور معاكس لدوره في إبّان ثورة عام 2011.
إذاً، بالنظر إلى ما تقدَّم، يمكن القول إن المؤسسة العسكرية التونسية باتت في مرحلة حصاد النقاط الإيجابية على المستوى الداخلي منذ عام 2011، وهذه المرحلة مرشَّحة للتصاعد على نحو أكبر خلال الفترات المقبلة، بالنظر إلى أن هذه المؤسسة بات لديها حيز أكبر من النفوذ والتأثير في المستوى الداخلي، تزاحمها فيه قوى أخرى، أغلبيتها حزبية، إلى جانب بعض منظّمات المجتمع المدني، وعلى رأسها الاتحاد العام للشغل.
التحدي الأكبر، في هذا الصدد، هو أن الجيش التونسي قد يواجه تطورات سلبية على المستوى الميداني، بناءً على مآلات الوضع السياسي الحالي، وخصوصاً في ظل عدم وضوح الرؤية في ما يتعلق بمستقبل الوضعَين البرلماني والحكومي للبلاد.
لكنْ، على الرَّغم من هذه المخاطر، فإنّ قرارات الخامس والعشرين من تموز/يوليو، أسست بصورة واضحة مرحلةً جديدة في تونس، تؤدي فيها المؤسسة العسكرية دوراً أكبر من حيث الزخم ومساحة التأثير، ستتحدَّد أبعاده بصورة أوضح خلال الأسابيع المقبلة.