ما بعد العولمة والحروب المختلفة

رغم أهمية الترسانة العسكرية في عالم ما بعد العولمة، فإنَّ الحرب بين أكبر اقتصادين في العالم تبقى رأس الحربة، وهي تأتي في الوقت الذي يتَّجه قطار الاقتصاد العالمي مسرعاً نحو الثورة التكنولوجية.

  • "الجيل الخامس" هو الحرب القادمة والمختلفة التي افتتحتها الولايات المتحدة في أراضيها،

صرّح الرئيس الأميركي الراحل جورج بوش الأب أمام أعضاء الكونغرس في العام 1991، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بأن العالم سيشهد نظاماً جديداً. هذا النظام الذي عُرف في ما بعد بـ"العولمة" كسر الحواجز بين الدول، وحوّل الكرة الأرضية إلى "قرية كونية" تتحدّث الإنكليزية وتطبّق ثقافة "راعي البقر". وقد اختلطت المفاهيم عند الشعوب بين تسمية المرحلة بـ"العولمة" أو "الأمركة"، بسبب قيادة الولايات المتحدة للعالم بعد سقوط القطب الروسي. 

نشطت في هذه المرحلة الحركات الإرهابية العابرة لحدودها، مستغلة الإنفلاش العالمي وإزالة الحدود ووسائل التواصل عبر الإنترنت، فاتّسعت دائرة تهديداتها لتصل إلى عمق الدول التي تحاربها. وقد نفّذت هذه الجماعات التي أطلق عليها اسم "القاعدة وأخواتها" عملياتها في العمقين الأوروبي والأميركي، وكان من أبرزها هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي أعطى الجيش الأميركي ذريعة الانتشار في أصقاع الأرض. 

في النظام العولمي، بات كلّ شيء منطقياً ومقبولاً ما دام غربياً، وكلّ من يخالف الغرب أو يعارض سياساته يُعدّ إرهابياً. في هذا النظام، كانت الصّين تسعى لتطوير اقتصادها، وتعمل للدخول في الاقتصاد العالمي، وكان الدب الروسي ما زال نائماً ومصدوماً بسقوط نظامه، كما دخلت الشركات العملاقة أسواق العالم التجارية، محققةً أرقاماً خياليةً على حساب الشعوب ذات الأغلبية الفقيرة.

تسارعت أحداث، وفرضت تغيرات واقعها الجديد على النظام العالمي، ليعتبر البعض أنَّ القرن الأميركي بات يحتضر، وباتت الدول تعمل على توزيع إرثه، على غرار ما حصل مع السّلطنة العثمانية (الرجل المريض) بعد الحرب العالمية الأولى. لهذا، يتبادر إلى ذهن المحللين التساؤل التالي: من سيقود العالم في المرحلة المقبلة التي تعرف بـ"ما بعد العولمة"؟ وهل سيجدد الأميركي قرناً آخر من الهيمنة، ولكن بأسلحة جديدة وحروب مختلفة؟

نعود بالتاريخ إلى العام 2018، عندما تصاعدت التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وقام الرئيس السابق دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية بقيمة تصل إلى مليارات الدولارات على المنتجات الصينية التي تدخل أسواق أميركا. ولم يكتفِ بذلك، بل فرض عقوبات على عملاق الخلوي الصيني "هواوي" وبعض الشركات الأخرى. 

من هنا بدأت الحكاية؛ عندما دخل أكبر اقتصادين في العالم حرب التجارة الطاحنة. ولم تقف الأمور هنا، بل نهض الدب الروسي، حليف التنين الصيني، واختار التوسع العسكري، واستعاد شبه جزيرة القرم، وفرض أمراً مغايراً للسياسة الغربية في سوريا، وأعاق عمل الثورات الملونة في كازاخستان، وها هو يدعم إيران في كسر معادلة التسلح في الشرق الأوسط عبر برنامجها النووي. لقد استطاع الحلف الصيني - الروسي قلب النظام العالمي، وها هو ينقلب إلى نظام متعدد الأقطاب.

في ظلّ المعمعة الدولية وقرع طبول الحرب، تتصدّر العالم حرب من نوع آخر. هذا ما أظهرته ركيزة الخلاف الصيني - الأميركي على من يفرض السيطرة على التكنولوجيا الرقمية الجديدة، وهي الـ"5G"، أي الجيل الخامس لشبكات الخليوي؛ فعالم ما بعد العولمة، كما يبدو، لا يتمحور حول القوى العسكرية، بقدر ما يتمحور السباق الحقيقي فيه بين الشركات حول قيادة مبادرات شبكات الجيل الخامس. 

رغم أهمية الترسانة العسكرية في عالم ما بعد العولمة، فإنَّ الحرب بين أكبر اقتصادين في العالم تبقى رأس الحربة، وهي تأتي في الوقت الذي يتَّجه قطار الاقتصاد العالمي مسرعاً نحو الثورة التكنولوجية وما توفره خدمات الـ"5G" من إمكانيات هائلة في القطاعات كافة، ولا سيما الاتصالات، في ظل تحول الاقتصاد العالمي إلى الاقتصاد الرقمي. 

صحيح أنَّ هذه الشبكة ستسمح للأشخاص بتنزيل الأفلام خلال ثوانٍ، وتمنحهم تجربة رائعة عند التجول عبر الإنترنت، ولكنَّ شبكات الجيل الخامس أكثر بكثير من مجرد كونها شبكة إنترنت فائقة السرعة للهواتف النقالة. إنها تكنولوجيا يمكن أن تدعم الجيل التالي من البنى التحتية، وتسهم في تحويل مدن العالم إلى مدن ذكية متصلة، إضافةً إلى تعزيز استخدام السيارات من دون سائق.

ببساطة، إن من يمتلكها سيحدد وجه الهيمنة على النظام العالمي الجديد. ولا تقف الأمور عند هذا الحدّ، فتكنولوجيا الجيل الخامس تمثل ثورة تقنية ستغيّر نمط الحياة البشرية بصورة غير مسبوقة، وما يمكن تسميته "سباق التكنولوجيا" - على وزن سباق التسلح - بدأ بالفعل بين الدول الكبرى. 

إنَّ الإنترنت المتنقّل يتطلَّب "معايير" يمكن الاتفاق عليها عالمياً، حتى تتمكَّن الشركات من تصنيع أجهزة الاتصال ونشر التكنولوجيا في جميع أنحاء العالم. هنا تكمن الحروب القادمة والمختلفة عن تلك التقليدية في عالم ما بعد العولمة، إذ ستكون السيطرة لمن يفرض قراره في عالم التكنولوجيا الرقمية الجديدة.

 لهذا، سارعت شركتا "AT&T" و"Verzion" الأميركيتان إلى إطلاق العنان لشبكات الجيل الخامس في جميع أنحاء الولايات المتحدة يوم الأربعاء 19-1-2022، رغم سلسلة من التحذيرات التي أطلقتها إدارة الطيران الفيدرالي "FAA"، من خلال أكبر شركات الطيران، بأنَّ خطراً حقيقياً قد تسبّبه هذه الشبكات على حركة الملاحة الجوية.

ويتخوَّف الخبراء الأميركيون من احتمالات حدوث تعارض وتداخل بين هذه الخدمة اللاسلكية ونظم تشغيل المروحيات، بما يجعل مقاييس الارتفاع بالرادار، التي تقوم بقياس درجة الارتفاع بالمركبة، غير موثوقة، علماً أنها المقياس الذي يتحتَّم استخدامه بموجب قانون الولايات المتحدة على متن جميع الطائرات التجارية والمدنية.

"الجيل الخامس" هو الحرب القادمة والمختلفة التي افتتحتها الولايات المتحدة في أراضيها، بدلالة واضحة على إصرارها على التحكّم في مفاتيح الحروب الإلكترونية والتكنولوجية القادمة، فالعالم لم يعد عالم العولمة، حيث الانفتاح الدولي تحت سياسة "العصا والجزرة" التي استخدمتها أميركا لتطويع دول العالم. إنه عالم ما بعد العولمة؛ عالم التحدي الأبرز لكسر الطوق الغربي على مفاتيح النظام العالمي. لهذا، يسارع خصوم الولايات المتحدة إلى الدخول في الحرب الرقمية المقبلة.

أخيراً، تسعى الولايات المتحدة لإثارة الصراعات الإقليمية وتأجيجها في الدول التي صنَّفتها إدارة جو بايدن "عدوّاً"، وهي الصين وروسيا، في سبيل شلّ قدراتها التطورية وإشغالها بحروب حدودية، فما يحصل بين الصين والهند، وفي البحر الصيني، وتمرّد تايوان على قرارات بكين، إضافةً إلى تطويق روسيا من أوكرانيا إلى كازاخستان، وغيرها من النقاط الساخنة في آسيا الوسطى وشرقها، دلالة على استراتيجية الولايات المتحدة باعتمادها "سياسة الإلهاء"، بهدف استئثارها بالعالم الرقمي، كي تجعل شركاتها رائدة في العالم الجديد، فهل ستستطيع الولايات المتحدة هذه المرة السير في قرن جديد للسيطرة على العالم؟