لماذا علّق الجيش السودانيّ مشاركته في مباحثات جدّة؟
قرار الجيش السوداني تعليق مشاركته في مباحثات جدّة، لم يكن حدثاً منفصلاً أو منعزلاً عن مجموعة متغيّرات بدأت تتشكّل مؤخراً في المشهد السوداني، ظاهرها الراجح يميل لصالح الجيش وقائده عبد الفتاح البرهان.
تمخّضت التهدئة المترنّحة بين طرفي الصراع في السودان برعاية الرياض وواشنطن، في 30 أيار/مايو إلى هدنة جديدة لمدة 5 أيام، لم تمضِ منها إلا ليلة واحدة، حتى عادت الاشتباكات مجدّداً وبوتيرة أعنف بين طرفي الصراع في العاصمة الخرطوم. لم تكن الهدنة المعلنة سابقاً أوفر حظاً فالاشتباكات المستمرة بقيت المحدّد الحاكم للمشهد.
كان التطوّر الأحدث والأبرز إعلان الجيش السوداني في 31 أيار/مايو، تعليقه المشاركة في مباحثات وقف إطلاق النار بجدّة، موضحاً في بيان له أنّ "قرار تعليق المفاوضات جاء لعدم تنفيذ قوات الدعم السريع أيّاً من النقاط التي تمّ التوقيع عليها في اتفاق جدّة، وأهمها الخروج من الأحياء السكنية، وإخلاء المستشفيات والمؤسسات العامة، ومرافق الخدمات ومراكز الشرطة".
تعليق الجيش السوداني مشاركته في مباحثات جدّة، لم يكن سببه الوحيد عدم تنفيذ قوات الدعم السريع للنقاط المتفق عليها، ففي كل الاتفاقيات السابقة لم يلتزم أيّ من طرفي الصراع بكل ما تمّ الاتفاق عليه، ولكنّ تجاهُلَ الوسطاء، الرياض وواشنطن، لمقترحات تقدّم بها الجيش السوداني، كانت أحد الأسباب المباشرة التي دفعت بالجيش السوداني لتعليق مشاركته.
وكان الجيش السوداني قد قال في بيان له بأنه قدّم للوسطاء مقترحات تتعلّق بالتوصّل إلى "ترتيبات عسكرية تُنهي التمرّد وتعيد البلاد إلى مسار التحوّل الديمقراطي"، لكنه تفاجأ من تجاهل الوسطاء لمقترحاته وتعليق المحادثات.
قرار الجيش السوداني تعليق مشاركته في مباحثات جدّة، لم يكن حدثاً منفصلاً أو منعزلاً عن مجموعة متغيّرات بدأت تتشكّل مؤخّراً في المشهد السوداني، ظاهرها الراجح يميل لصالح الجيش وقائده عبد الفتاح البرهان، الذي بدا متعجّلاً في استخدام وتوظيف المتغيّرات الحاصلة.
فما هي تلك المتغيّرات؟ ولماذا قرّر الجيش السوداني تعليق مشاركته في مباحثات جدّة؟ وما هي التبعات والتداعيات المترتّبة على قرار تعليق المشاركة؟ وأيّ السيناريوهات أقرب للتحقّق وفق المتغيّرات؟
جرت العادة أنه كلما اقترب الفرقاء في السودان من موعد تنفيذ استحقاق سياسي، يذهب قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان إلى الانسحاب، هذه المرة كان الانسحاب باتجاه القفز للأمام، ولكن من دون مراعاة أن هناك وسطاء دوليين قد دخلوا على المشهد.
في 19 أيار/مايو الماضي، وبينما لم يمضِ على بدء مباحثات جدّة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلا بضعة أيام فجّر قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان لغماً سياسياً، عندما أصدر مرسوماً دستورياً بإعفاء نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، من منصبه، وتعيين مالك عقار أحد مؤسسي الحركة الشعبية لتحرير السودان بدلاً منه.
لم يكن قرار البرهان خالياً من الدلالات السياسية؛ التي من بينها استعراض القوة واستعادة الحضور. كان توقيت القرار محمّلاً بالدلالات والتبعات، وأهمها عدم مراعاة البرهان للمباحثات الجارية في جدّة التي بدأت في 6 أيار/مايو 2023.
فكانت التبعات سكب مزيد من الزيت على نيران الاشتباكات الدائرة. لأن إزاحة (حميدتي) عن منصبه في مجلس السيادة الانتقالي قطعاً لن تؤدي إلى تهدئة ووقف الاشتباكات. ولأنّ البرهان كان قد أصدر من قبل قراراً بحلّ قوات الدعم السريع لكنه أبقى على منصب (حميدتي) كنائب لرئيس مجلس السيادة.
تدحرجت خطوات البرهان تباعاً، فذهبت إلى بعد أعمق عندما طلب في رسالة "صادمة" إلى أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، في 26 أيار/مايو الماضي، اختيار بديل لمبعوثه الخاص في السودان، فولكر بيرتس. ورداً على طلب البرهان قال المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، إن "الأمين العام فخور بالعمل الذي يؤديه، فولكر بيرتس، ويعيد تأكيد ثقته التامة بمبعوثه الخاص".
علماً بأن المبعوث الأممي للسودان معيّن من قبل مجلس الأمن وولايته ممدّدة بقرار صدر عن مجلس الأمن بالإجماع، ولا يستطيع السودان منفرداً الخروج على قرار مجلس الأمن بطرد بيرتس أو طلب تغييره.
بضربة واحدة وسوء تقدير فجّر البرهان 3 جبهات متتالية، الأولى عندما تجاوز وساطة الرياض وواشنطن، واستدار وتقدّم باقتراحات للحل وإنهاء ما أسماه بالتمرّد، في حين أن مباحثات جدّة كانت مشروطة بالبعد الإنساني فقط، وعندما رفض الوسطاء مناقشة مقترحاته غضب وعلّق مشاركته في مفاوضات جدّة.
الجبهة الثانية عندما أجّل قرار عزل (حميدتي) من منصب نائب رئيس مجلس السيادة لشهر كامل تقريباً بعد بدء القتال، وعندما جاء ببديل عنه جاء بأحد قادة التمرّد في السودان مالك عقار. فكان كمن يستغيث من الرمضاء بالنار.
أما الجبهة الثالثة فكانت مع الأمم المتحدة عندما طلب من أمينها العام تغيير المبعوث الأممي للسودان، وطلب البرهان يعني من بين معانٍ كثيرة أنه لا يثق في رئيس البعثة الأممية، فكان ردّ الأمين العام تمسّكه بالمبعوث الأممي للسودان، وهذه جبهة لم يكن البرهان موفّقاً في إثارتها لأنّ البعثة وسيط حلّ وليست طرفاً في الصراع.
إن قرار الجيش السوداني تعليق مشاركته في مباحثات جدّة مرتبط بقراءة استشرافية تكوّنت لدى قائد الجيش عبد الفتاح البرهان أن المتغيّرات والمعطيات على الأرض تميل لصالحه، وأنه قد بات قريباً من حسم الصراع لما فيه فائدة له، ويمكن إيجاز معطيات وروافد تلك القراءة في التالي:
- أن قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان مطمئن جداً، لسير وأداء العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش السوداني، وأنه بات يتحرّك وفقاً لسيناريوهات ما بعد انتهاء الاشتباكات وحسمها لصالحه.
- الغياب المستمرّ لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو(حميدتي)، عن الظهور الميداني والإعلامي، بالتزامن مع بدء معركة نفسية وإعلامية مضادة، تقول إن الرجل مصاب إصابة خطيرة وأنه قد قتل في إحدى الغارات على مستشفى شرق النيل أثناء علاجه. عزّز تلك الفرضية تزايد وتيرة التصريحات الإعلامية لشقيق (حميدتي) نائب قائد قوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو، في حين التزم (حميدتي) الصمت.
- مؤشّر آخر أن وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، كان قد أجرى في 20 أيار/مايو، اتصالاً هاتفياً مع البرهان، من دون أن يجري اتصالاً مع (حميدتي)، الأمر الذي عزّز رواية غياب الرجل عن المشهد، في المقابل حرص البرهان الذي كان غائباً ميدانياً عن المشهد إلى تعزيز حضوره الميداني وتكراره وتوثيقه بالصوت والصورة.
- تكرار الظهور الميداني للبرهان وسط جنود الجيش السوداني خلال تفقّدهم في الأيام الأخيرة الماضية، واستدعائه خطاباً جديداً، قائلاً إن القوات المسلحة "لم تستخدم بعدُ كامل قوتها المميتة حتى لا تدمّر البلاد، لكن إذا لم ينصع العدو (قوات الدعم السريع) أو يستجب، سنضطر لاستخدام أقصى قوة لدينا". ويبدو أن تلويح قائد الجيش باستخدام القوة المميتة جاء ضمن قراره تعليق المفاوضات في جدّة. وإن التعليق يعني الاستغناء عن التفاوض لأنّ حسم المشهد قد بات قريباً.
- قرار الجيش السوداني تعليق مشاركته في مباحثات جدّة يعني أنّ البرهان لم يعد يرى من جدوى في التفاوض مع قوات الدعم السريع طالما أنه قادر على حسم المعركة لصالحه. والمعطيات على الأرض ترجّح ذلك، ولا سيما بعد استعادة الجيش السوداني لقاعدة "النُجُومِي" الجوية بالخرطوم، من قوات الدعم السريع في 5 حزيران/يونيو الجاري.
- القرار يعني أيضاً أن الجيش يريد كسب مزيد من الوقت لتثبيت مكاسب على الأرض أولاً، ويعني استشعاره لجدية أكثر وميل لصالحه أكبر في المبادرة الأفريقية ثانياً، التي اشتملت على 6 بنود كخارطة طريق للحل، بخلاف مبادرة الرياض واشنطن التي لم تشمل أيّ بنود سوى وقف إطلاق النار من أجل هدنة إنسانية. إضافة إلى أنها مدعومة من 21 دولة أفريقية، وكذلك الاتحاد الأفريقي ومنظمة إيغاد والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، في حين أن مباحثات الرياض تتمّ برعاية سعودية أميركية فقط.
- تعليق الجيش السوداني لمشاركته في مباحثات جدّة يعني أن الجيش لا يريد حصر المفاوضات في البعد الإنساني فقط، وأنه يريد الانتقال إلى مباحثات ومفاوضات نهائية بناء على مقترحات يقدّمها الجيش ويقرّرها، ومن بينها إنهاء تمرّد قوات الدعم السريع. ما يعني أنه يريد تحقيق شروط تفاوض مسبقة ومن موقع قوة، وتبدأ من نقطة استبعاد قوات الدعم السريع من المشهد.