كرد سوريا.. في خدمة من؟
السؤال الأهم هو: لماذا تتخذ القيادات الكردية هذه المواقف المتناقضة؟ ولماذا لا تستخلص الدروس من كل أخطائها؟
بعد التهديدات التركية بالتوغل في الأراضي السورية شرق الفرات وغربه، بذريعة طرد مسلحي وحدات حماية الشعب الكردية من الشريط الحدودي مع تركيا، عاد الحديث من جديد عن حوارات كردية مع دمشق بهدف التصدي للجيش التركي في هجومه المحتمل.
ومع أن المعلومات ما زالت ضئيلة لجهة نتائج هذه الحوارات، إلا أن الجميع يعرف أن قرار هذه الوحدات لا يتخذ في القامشلي، بل في جبال قنديل، حيث قيادات حزب العمال الكردستاني التركي، الذي بات يسيطر على الحركة الكردية السورية بعد إقصائه الأحزاب والمنظمات والمجموعات الكردية الوطنية وغير الوطنية، بما فيها تلك الموالية لمسعود البرزاني؛ حليف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
ومع المعلومات التي تتحدّث عن تأجيل العمل العسكري التركي بعد زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لأنقرة واعتراضه عليها، تراجعت في الوقت نفسه حدة التصريحات الكردية التي كانت تتحدّث عن ضرورة العمل العسكري المشترك مع الجيش السوري، وهو ما يعكس تناقضات القيادات الكردية بشقّيها: السوري أولاً، والتركي ثانياً. والشق الثاني هو الأهم بغياب إرادة الطرف الأول في اتخاذ القرارات التي تخدم الشارع الكردي السوري أولاً، والدولة السورية تالياً بتوجهاتها الجديدة إلى الحل الشامل لما يسمى القضية الكردية، فقيادات قنديل التي غادرتها بسبب القصف التركي المتوالي ترى في مسلحي وحدات حماية الشعب الكردية، وأغلبيتهم الساحقة من السوريين، ورقة مهمة تساوم بها كل الأطراف الإقليمية والدولية بعد انتكاسات الحزب المسلحة في تركيا.
وقد نجح الجيش وقوات الأمن التركيان المدعومان بآلاف المليشيات الكردية الموالية لها في إنزال ضربات مؤثرة في مسلحي حزب العمال الكردستاني، بعد أن استخدم الجيش طائراته المسيرة بكثرة، في جنوب شرقي البلاد وشمالي العراق، وعلى طول الحدود التركية مع العراق وإيران وسوريا.
قيادات قنديل وبغياب زعيمها عبد الله أوجلان المسجون منذ شباط/فبراير عام 1999، يبدو أنها قد نسيت أو تناست أن من اختطف أوجلان من العاصمة الكينية نيروبي وسلّمه إلى تركيا، هو الاستخبارات الأميركية بالتنسيق مع الموساد الإسرائيلي.
كما أنها نسيت أو تناست كيف ارتعشت خوفاً، عندما قال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في 29آذار/مارس من عام 2018"إن القوات الأميركية ستغادر سوريا قريباً جداً، وتترك الأطراف الأخرى تهتم بالأمر"، وقصد بذلك الحرب على داعش ثمّ التهديدات التركية باجتياح المنطقة. وهي نسيت كذلك أو تناست أن ترامب هو الذي أشعل الضوء الأخضر للرئيس إردوغان، الذي أمر الجيش التركي بالتوغّل، شرق الفرات، في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2019، (وهو نفس اليوم الذي غادر فيه أوجلان سوريا قبل 19 عاماً بعد أن بقي فيها 15 عاماً)، لتسيطر على الشريط الحدودي، بين تل أبيض ورأس العين (نحو 100 كلم) وتطرد المسلحين الكرد من المنطقة.
ونسيت كذلك أو تناست أن الجيش التركي كاد يسيطر على الشريط الحدودي السوري مع تركيا سيطرة كاملة، شرق الفرات، لولا تدخّل موسكو وإرسال القوات الروسية إلى المنطقة، وتسيير دوريات مشتركة مع الجيش التركي في المنطقة.
وهي أيضاً نسيت أو تناست أنها السبب في اجتياح الجيش التركي في كانون الثاني/يناير عام 2018 منطقة عفرين والسيطرة عليها تماماً، بعد أن رفضت التنسيق والعمل المشترك مع الجيش السوري لمنع الجيش التركي من القيام بمثل هذا الاجتياح.
ولم تستخلص كذلك الدروس اللازمة من حواراتها مع الرئيس إردوغان بهدف حل المشكلة الكردية في تركيا وسوريا معاً، إذ أخفقت كل هذه الحوارات، ليس في حل المشكلة الكردية وحسب، بل في تخلية سبيل زعيم الحزب، عبد الله أوجلان، وهو في سجن انفرادي في جزيرة إيمرالي القريبة من إسطنبول.
ولم يكتف إردوغان بذلك، بل أمر بوضع الزعيمين المشتركين لحزب الشعوب الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) صلاح الدين دميرطاش، وفيكان يوكساكداغ، وعدد آخر من قيادات الحزب، ورؤساء البلديات والآلاف من أنصار وأتباع وكوادر الحزب في السجون على الرغم من سيطرة هذا الحزب على الشارع الكردي.
وتبيّن استطلاعات الرأي أنه قد يحصل على 12٪ من مجموع أصوات الناخبين في تركيا، وعددهم نحو 60 مليوناً.
وعودة إلى مواقف قيادات قنديل، يبدو أيضاً أنها قد نسيت أو تناست كيف نسّقت مع أنقرة للعمل المشترك، ما بين عامي 2013 و2015، حيث زار زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني السوري صالح مسلم تركيا مرات عدة، والتقى القيادات التركية التي طلبت إليه التمرّد على دمشق، فرفض ليكون ذلك الموقف الإيجابي الوحيد له ولرفاقه، ولكن بعد أن جاءت القوات الأميركية إلى شرق الفرات لتساعدهم في حربهم على داعش، وهو ما استغلته القيادات المذكورة لتدخله في حساباتها الخاصة، التي اعتقدت أنها ستساعدها في إقامة كيان كردي مستقل شرق الفرات.
وأياً كانت التسمية خصوصاً بعدما سارع عدد من العواصم الغربية ولا سيما باريس، وبرلين، ولندن، بل وحتى "تل أبيب" لدعمها وفق حساباتها الخاصة، ومنها تشجيع قيادات "قسد" الكردية على تكريد المنطقة، وتطهيرها عرقياً بسكوت وتواطؤ من القيادات العربية في "قسد". ومن دون أن تستذكر القيادات المذكورة مواقف واشنطن والعواصم الغربية، التي اعترضت على استفتاء مسعود البرزاني على استقلال كردستان العراقي في أيلول/سبتمبر عام 2017، وهو ما اعترض عليه إردوغان "الحليف الإستراتيجي للبرزاني".
ويبقى السؤال الأهم وربما الوحيد: لماذا اتخذت وتتخذ القيادات الكردية كل هذه المواقف المتناقضة؟ ولماذا لا تستخلص الدروس اللازمة من كل أخطائها، ومن تاريخ الحركة الكردية في تركيا وسوريا والعراق بل ومن إيران كذلك؟
يتذكر الجميع كيف كان الكرد وما زالوا ورقة تلوّح بها الأطراف الخارجية في تآمرها على دول المنطقة التي دعمت كرد الدول الأخرى، فيما حاربت كردها داخل حدودها. كما استعدى الكرد بعضهم بعضاً في هذه الدول الأربع، ودخلوا في صراعات مسلحة ودموية فيما بينهم، تارة من أجل المصالح والسلطة، وتارة أخرى خدمةً لأطراف خارجية، كما هي الحال في تحالف مسعود البرزاني مع أنقرة، تارة ضد الراحل جلال الطالباني، وتارة أخرى ضد حزب العمال الكردستاني التركي وزعيمه عبد الله أوجلان. ومن دون أن يخطر في بال البرزاني وأمثاله، أن العواصم الإقليمية والغربية لم تفكر، ولن تفكر في حقوق الكرد، بل استخدمتهم وتستخدمهم وستستخدمهم إلى الأبد لتحقيق أهدافها الخبيثة، التي تستهدف دول المنطقة وشعوبها برمتها، وفي مقدمهم الكرد، ومعهم العرب، والفرس، والأتراك، وغيرهم.
وهذا ما تحقّق للعواصم الغربية والإقليمية بفضل الدور الذي أداه ويؤديه الكرد في العراق، والآن في سوريا التي لولا تآمر القيادات الكردية (الماركسية سابقاً) في شرقها مع المحتل الأميركي والأوروبي، لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه في المنطقة وسوريا خصوصاً، ولولاها لما تذرعت تركيا بهم لتتوغل في الشمال السوري وتسيطر على 9٪ من مجمل الأرض السورية.
كذلك فإن الواقع المفروض شرق الفرات بدعم أميركي، هو مبرّر كافٍ لأنقرة لتبقى في المناطق التي تسيطر عليها قواتها بالتنسيق والتعاون مع عشرات الآلاف من مسلحي ما يسمّى "الجيش الوطني" المعارض و"النصرة" وحليفاتها الإرهابية.
وتتحدث المعلومات هنا باستمرار عن حسابات تركية للاستفادة منهم حين اللزوم ضد الكرد، سواء في داخل تركيا أو في الشّمال السوري، وقد يكون ذلك ما قصده ترامب عندما قال في آذار/مارس عام 2018 "سنغادر سوريا ونترك الأطراف الأخرى تهتم بالأمر فيما بينها". وفي اتصاله الهاتفي بإردوغان في 24 من كانون الأول/ديسمبر عام 2018 قال: "لقد أنهينا مهمتنا وسوف ننسحب من هناك وسوريا كلها لك"!
ويبقى الرهان في جميع الحالات على التطورات المحتملة ليس في سوريا فقط وتوتّراتها مع تركيا، بل على الخريطة السياسية التي يراهن البعض عليها كنتيجة لزيارة الرئيس بايدن للسعودية في 15 من الشهر المقبل، ولقائه زعماء الخليج، ومصر، والأردن، والعراق، وهو ما سينعكس مباشرة على مجمل معطيات المنطقة، وأهمها: الملف النووي الإيراني، والوضع في سوريا وانعكاسات ذلك على كل الحسابات بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فعسى ألا يكون الكرد مادتها الحارقة، التي ستحرقهم، وتحرق كل الذين عاشوا ويعيشون معهم منذ مئات السنين بكل أيامهم الحلوة والمرة. وعسى أن يستخلص حكام دول المنطقة بدورهم، وخصوصاً في سوريا والعراق وإيران الدروس الكافية من كل ما عاشته، وتعيشه دولهم والمنطقة عموماً، ويسدوا الطريق على الأعداء الذين يعرفهم الجميع، وخصوصاً الكرد ومنذ أكثر من مئة سنة على الأقل!