فيلم كريستوفر نولان عن أبي القنبلة الذريّة: "أوبنهايمر" وعي أميركا الشقي
"أوبنهايمر" بيوغرافيا أميركية بامتياز. قد لا يراعي الأصول البيوغرافية في ما يتعلّق ببطله أوبنهايمر: لا يهتمّ بطفولته وبداياته وشبابه، ولا بالمرحلة الأخيرة من حياته، لكنه يصور فصلاً من تاريخ أميركا.
خلافاً لما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، فإن فيلم كريستوفر نولان الجديد "أوبنهايمر"، الذي يملأ الصالات هذه الأيّام ويشغل النقّاد، في الولايات المتحدة، وعواصم غربية وعربيّة عديدة، ليس فيلماً سياسياً! فما يهمّ المخرج البريطاني – الأميركي، صاحب ثلاثيّة "باتمان الشهيرة ("بداية باتمان"/2005، "الفارس الأسود"/ 2008، "نهوض فارس الظلام"/2012) هو كالعادة، مصائر الأبطال الخارقين أو الاستثنائيّين، الآتين من المخيّلة الجماعيّة أو من التاريخ، الذين يقفون وجهاً لوجه مع مصيرهم، يخوضون صراعاً مع الواقع، هو صراع بين الخير والشر في المحصّلة الأخيرة. طبعاً "الخير والشر" على الطريقة الهوليووديّة...
"أوبنهايمر" بيوغرافيا أميركية بامتياز. قد لا يراعي الأصول البيوغرافية في ما يتعلّق ببطله أوبنهايمر: لا يهتمّ بطفولته وبداياته وشبابه، ولا بالمرحلة الأخيرة من حياته، بعد إقصائه من اللجنة الاستشارية لـ "هيئة الطاقة الذريّة"، وتحطيمه من قبل الاستابليشمنت الأميركي. لكنه يصوّر فصلاً من سيرة أميركا، ويعطينا صورة دقيقة وأمينة للولايات المتحدة في لحظة حاسمة من تاريخها: نهاية الحرب العالمية الثانية، وبداية سباق التسلّح النووي، صعود المكارثية، الحرب الباردة.
إنّها أميركا كما نعرفها، مهووسة بهاجس السيطرة على العالم، بوجهها الرأسمالي الاستعماري، تنظر بعين الريبة إلى الأفكار النقدية، وتخاف من "بعبع" الشيوعيّة، وتدوس على الإنسانية بحجة أنّها "إن لم تفعل هي، فسيفعل آخرون!". وعلى الخلفيّة نفسها تعبر سيرة اليسار المجهضة، ولحظة القضاء على التجربة الشيوعية في أميركا، وسياسة "صيد الساحرات" التي طاردت وحاكمت وعاقبت وعزلت ودمّرت دائرة واسعة من النخب الأميركية، في زمن المكارثية.
كلّ ما سبق سيبقى في الخلفيّة، فالسيناريو يترك للمشاهد الخيار في التوقّف عندها، والخروج بخلاصات سياسية. لكن الفيلم منشغل باستعادة تلك الشخصيّة الفريدة، الغنية، المتناقضة، الملتبسة أحياناً التي يؤديها بمهارة الممثل كيليان مورفي: إنّه يوليوس روبرت أوبنهايمر (1904– 1967). الكيميائي والفيزيائي اللامع، الرائد في علم الميكانيك الكمّي، والعالم الذي لُقّب بـ "أبي القنبلة الذريّة".
رغم ميوله اليسارية وعلاقاته السياسيّة "المشبوهة"، اختير أوبنهايمر لتسلّم مهمّة إدارة "مشروع مانهاتن" العام 1942، وجمع حوله عشرات من أهم العلماء في أميركا والعالم، داخل مدينة كاملة بنيت خصيصاً لهم في لوس آلاموس، في صحراء نيو مكسيكو. مئات العلماء، يساعدهم آلاف الأشخاص، سيعملون معاً في هذه الصحراء، للحصول على القنبلة الذرية قبل ألمانيا النازية. السباق سيصبح لاحقاً مع السوفيات طبعاً! ولن يتوقّف رغم الاتفاقيات الدولية المختلفة للحد من الانتشار النووي. وكم يبدو الفيلم راهناً، في زمن المخاطر "النوويّة" التي تحدق مجدداً بالعالم، من جرّاء الحرب الأطلسية على روسيا في أوكرانيا.
كان يأمل أوبنهايمر الاكتفاء بالتجارب النووية، على أن ترمى القنبلة التجريبية الأولى فتحسم الحرب النفسية مع اليابان، وتدفعها إلى الاستسلام. لكن ما جرى غير ذلك. وسرعان ما تراجعت لديه نشوة النجاح الذي كلل تجارب لوس آلاموس، إلى تأنيب ضمير مؤلم استبد به بعد قنبلتي هيروشيما وناغازاكي. برّرت أميركا، حينذاك، هولهما بضرورة إنهاء الحرب مع اليابان، ووضع حد لسقوط الضحايا في ساحات القتال. ما همّ المئتي ألف ضحيّة بفعل هذه الهمجيّة؟ ما هم الدمار الفظيع، والجراح التي لم تندمل إلى اليوم في اليابان؟
فيلم كريستوفر نولان، مسكون بالهواجس الأخلاقية التي نشأ عليها أوبنهايمر. سؤال الفيلم، هو السؤال الذي سيلاحق بطل الفيلم بقية حياته: ما هي المسؤولية الأخلاقية الملقاة على العلماء، حين تستعمل الأنظمة السياسيّة والدول والجهات المهيمنة، اختراعاتهم واكتشافاتهم، لتخريب العالم وتدمير البشرية. ألم يحذّر آنشتاين نفسه العالم من الكوارث والاستعمالات الشريرة للعلم؟
روبرت أوبنهايمر سيعيش عقدة الذنب الفظيعة، بعد انتهاء الحرب، وسيعتبر نفسه مسؤولاً عن فظاعة هيروشيما، وسيعارض بشدّة صناعة القنبلة الهيدروجينيّة التي تتجاوز القنبلة الذرية بمئة مرّة. وهذا الموقف المعارض للقنبلة الهيدروجينيّة هو "الذنب" الذي اقترفه في نظر "جلّاديه"، والذي "سيحاكم" على أساسه، في العام 1954 في عز صعود المكارثية و"لجنة النشاطات المعادية لأميركا".
هذا الرجل الذي "صنع القنبلة النووية" وغيّر مسار البشريّة، بعد أن كان بطلاً قوميّاً، سيجد نفسه في قفص الاتهام! تمّ نبش ماضيه اليساري، واتهامه بالتجسس لصالح الاتحاد السوفياتي. علماً أن أوبنهايمر لم يلتزم في الحزب الشيوعي الأميركي، خلافاً لحبيبته الأولى وزوجته وأخيه. لكنّه كان يحمل أفكاراً يسارية، وارتاد حلقات الشيوعيين، وقدّم مساعدات إلى ضحايا الحرب الأهلية الإسبانيّة!
لم تكن محاكمة لأوبنهايمر بالمعنى الحرفي، بل "لجنة استماع" ستجرّده من منصبه في النهاية، وتقصيه عن الهيئة الذريّة. رغم قناعتها بأنّه "مواطن صالح"! طبعاً الحكم كان قد صدر قبل بدء جلسات الاستماع، فالرئيس آيزنهاور (حكم بين1953 و1961) نفسه هو الذي طلب إقصاء هذا العالم المكبّل بأسئلته الأخلاقيّة! آلاف الصفحات من المداولات والشهادات أمام "محكمة التفتيش" التي نبشت حياة الرجل وتاريخه، استند إليها، عام 1964، الكاتب الألماني هاينر كيبهارت لتأليف مسرحية توثيقية سياسية بعنوان "قضية روبرت أوبنهايمر". وفي العام نفسه أخرجها كبار المسرح العالمي في القرن العشرين: إيروين بيسكاتور في برلين، جان فيلار في باريس، وجورجيو شترلر في ميلانو.
وإذا كان أوبنهايمر ألهم السينمائيين والمسرحيين والكتّاب من زوايا مختلفة، فإن نولان افتتن بالشخصية وصراعاتها الداخلية وتناقضاتها (طوباوي وطموح في آن، عبقري وساذج...)، أكثر من اهتمامه بمحاكمة "الديمقراطية الأميركية". بنى الفيلم على ثلاثة مستويات سردية متوازية ومتقاطعة:
- وصول أوبنهايمر الى "مشروع مانهاتن" ووقائع تطوير القنبلة في لوس آلاموس.
- جلسات محاسبة رئيس "هيئة الطاقة الذريّة" الأدميرال لويس ستراوس (تمثيل: روبرت داوني جونيور). المليونير العصامي الذي بدأ بائع أحذية، هو من وظّف أوبنهايمر، عام 1947، وهو في أوج شهرته، مديراً لـ "معهد الدراسات المتقدمة" التابع لجامعة برنستون. ومنذ ذلك الوقت، يبدو أن بائع الأحذية السابق صاحب الإيغو الحساس، نمّى تجاه العالِم النزق، عقدة دونيّة فظيعة. هكذا حرّض عليه ووشى به وسرّب ملفّه، بدوافع انتقامية شخصية وأيديولوجيّة.
- وأخيراً طبعاً محاكمة أوبنهايمر التي تعبر خلالها تفاصيل من حياته الشخصية ومساره المهني ومواقفه.
يبالغ كريستوفر نولان أحياناً، في رسم الشخصيات وتصوير المواقف بشيء من "التكلّف"، ويلجأ مراراً إلى المؤثّرات البصرية التي تفسّر للمُشاهد المعادلات الفيزيائية، وعمليات الانصهار والانشطار النووي. لكنّه يبدو معجباً بشخصيّته الرئيسية، ملتصقاً بها، لا يخفت حضورها طوال الساعات الثلاث التي هي مدّة الفيلم.
شخصية فريدة تتطلب معاملة استثنائيّة على الشاشة، أوبنهايمر بطل أميركي نموذجي في النهاية، بطل وضحية. يقبل صاغراً بمصيره، حين يأفل نجمه ويعود أستاذاً في جامعة برنستون... إلى أن تفتضح تلاعبات الأدميرال ستراوس، ويعاد إليه الاعتبار سياسيّاً، فتمنحه الحكومة الأميركيّة العام 1963 "جائزة إنريكو–فيرمي". العالِم المتفائل بالقبعة والمعطف الواسع، بات أمامنا رجلاً متعباً، مجرداً من طموحاته وأوهامه، منشغلاً بالأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها. ما جدوى إعادة الاعتبار؟ سيبقى أوبنهايمر وعي أميركا الشقي!