غزة: أسئلة وتحدّيات ما بعد اليوم التالي

كيف يمكن إطلاق عملية الإعمار في غزة وتمويلها؟ وما جدوى إعادة الإعمار إذا كان الاحتلال، في كلّ جولة قتالية مقبلة، يعمد إلى ممارسة التدمير الشامل خاصة للبنية الأساسية ليصبح القطاع غير صالح للسكن؟

0:00
  • إدارة القطاع ونزع سلاح المقاومة.
    إدارة القطاع ونزع سلاح المقاومة.

بدأ يوم الأحد، في الـ 19 من كانون الثاني/يناير)، تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين "إسرائيل" والمقاومة. وبغضّ النظر عن مراحل الاتفاق، دخل قطاع غزة بالفعل "اليوم التالي" لوقف إطلاق النار. ومن بين مناطق التطهير العرقي والإبادة الجماعية هذا القرن، سيبرز مشهد غزة كحالة لا يرقى إليها شكّ، وقد وصفتها منظّمة "أطباء بلا حدود" بأنها "فخّ الموت". لقد انعدمت المناطق الآمنة وعجز سكانها عن الخروج من الأنقاض للنجاة بحياتهم. وقُصِفت غزة بعشرات آلاف الأطنان من القنابل شديدة الانفجار والتدمير ما يعادل عدة قنابل ذرية كقنبلة هيروشيما. 

كذلك، آن أوان طرح الأسئلة والتحديات المقبلة أمام المقاومة وحاضنتها الشعبية التي تحمّلت عبئاً رهيباً وتضحيات هائلة ودماراً ونكبةً تتجاوز نكبة 1948. فباتت المدن والقرى والمخيمات والأحياء خراباً بلقعاً وأنقاضاً وركاماً، فمُحيت معالمها ولم يعد سكانها يعرفون مواقع منازلهم، وغطّتها أكوام نفايات متعفّنة ومستنقعات صرف صحي لوّثت الماء والهواء والتراب ونشرت أوبئة، وما تبقّى من المباني خَطِر جداً لا يصلح سكناً، حيث تتجمّع عائلات وأقرباء في خرابات آيلة للسقوط، بلا جدران تحت قسوة الشتاء. 

إعادة الإعمار

خلال 15 شهراً، لم يكن هناك اقتصاد أو إنتاج أو تجارة أو أسواق، ولا خدمات حكومية أو بلدية أو طبية، ولا مستشفيات ولا مدارس ولا تعليم، ولا رواتب معلمين وموظفين وعمال القطاعين العام والخاص. دمّر الاحتلال الطرق والبنية الأساسية للكهرباء والماء والصرف الصحي. وحتى لو أنشئ صندوق لإعادة الإعمار بمليارات الدولارات، فلن تعود الحياة لطبيعتها قبل سنوات عديدة، هذا إن عادت!

تُظهر الخبرات السابقة أنه بعد دمار أحدثه الاحتلال خلال حروبه المتعددة على غزة منذ 2008، لم يسمح بإعادة إعمارها واستمر معظم الدمار حتى اندلاع طوفان الأقصى، ليتكرّس الخراب كابوساً بلا نهاية أو أفق حياة. ولا يسمح بدخول ضرورات الإعمار من أموال ومواد بناء ومعدات إلا ما ندر. 

السؤال هنا: كيف يمكن إطلاق عملية الإعمار وتمويلها؟ وما جدوى إعادة الإعمار إذا كان الاحتلال، في كلّ جولة قتالية مقبلة، يعمد إلى ممارسة التدمير الشامل خاصة للبنية الأساسية ليصبح القطاع غير صالح للسكن؟ وحتى لو أمكن أن تبدأ عملية إعادة الإعمار، فكيف ستكون إدارتها وأولوياتها مع اتساع نطاق التدمير الذي طال الحياة المدنيّة كلّها؟ 

إدارة القطاع ونزع سلاح المقاومة

كان من أسباب مماطلة حكومة نتنياهو في إنجاز اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى هو عجزها عن طرح وإنفاذ رؤية حول اليوم التالي لوقف إطلاق النار ومستقبل حكم غزة، ورفضه عودة سلطة رام الله لقطع الطريق على أيّ تفاهم بين المقاومة والسلطة، التي أفشلت فكرة لجنة الإسناد المجتمعي المقصود بها دعم إدارة القطاع بعد توقّف القتال. 

لقد أكّد الكيان المحتل وأميركا مرات اتفاقهما التامّ على عدم عودة المقاومة لحكم وإدارة القطاع كما قبل الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وألّا تشكّل غزة تهديداً للكيان. والمؤكّد أنهما لم يتراجعا عن هذا الاتفاق لكنهما يتربّصان الفرص لتحقيقه، وقد يعني ذلك عودة القتال والتدمير والإبادة قريباً.

بيد أنّ كلّ المقترحات المقدّمة تنطوي على نزع سلاح المقاومة والسيطرة على الأرض تماماً، وهو هدفٌ لم يحقّقه الكيان خلال 15 شهراً من حرب الإبادة، ويقدّر خبراؤها أنه يحتاج سنوات طويلة والنتائج غير مؤكّدة. لذلك، يُرجَّح أن لا سلطة خارج خيار الشعب، تُفرَض في ظلّ الظروف الراهنة، ستستطيع الاستمرار وستكون ضعيفة وغير قادرة على منع الفصائل من التجنيد والعمل المقاوم. 

إجهاض نتائج الطوفان

لقد شهدت قضية فلسطين والعالم، عقب انطلاق طوفان الأقصى، تحوّلات فارقة لم يشهدها قرن من الصراع العربي الصهيوني والكفاح الفلسطيني للتحرّر الوطني. أهمّها عودة قضية فلسطين إلى صدارة اهتمام العالم بعد عقود من تنحيتها وطمسها وتصفيتها واختزالها، وانطلاق حركة تضامن عالمية معها، وتحرّكات وقرارات هامّة بمحكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية والأمم المتحدة، واعتراف دول غربية عديدة بـ "دولة فلسطين"، وخروجها عن الموقف الأميركي.

لكنّ محصّلة موقف الغرب الجماعي، بقيادته الأميركية، يميل إلى حصار هذا الإنجاز واحتوائه بل وإجهاضه عبر مسارات: 

- عودة الحديث عن مسار تفاوضي لحلّ الدولتين يفضي لقيام دولة فلسطينية بقيادة سلطة رام الله، وربط المسار بالتطبيع؛ رغم اليقين القاطع بأنّ حلّ الدولتين دُفِن منذ كامب ديفيد عام 2000، وتأكّد ذلك باندلاع الانتفاضة الثانية ثم اغتيال ياسر عرفات والانتفاضة معاً، وانتقال الموقف الصهيوني إلى حسم معركة الضفة الغربية وإنهاء الوجود الفلسطيني وفق خيارات سموتريتش: إبادة أو ترانسفير (تهجير) أو استعباد. 

- إضعاف حلقات محور المقاومة، الرديف والسند الأساس للمقاومة الفلسطينية، وحصاره في لبنان بقطع خطوط الإمداد عبر سوريا، واستمرار احتلال الجنوب، وإقصاء المقاومة سياسياً بالاختراق الغربي، ومعادلات الانقسام الداخلي، والهشاشة المفتعلة؛ وفي العراق بخنق المقاومة واستيعابها داخل دولاب الدولة؛ وفي اليمن بإعادة تصنيف "أنصار الله" منظمة إرهابية؛ وفي إيران بتهديدها مجدداً بضربة عسكرية وضغوط قصوى وزوابع حول برنامجها النووي ودورها الإقليمي.

- استمرار حصار غزة وتشديده ومنع دخول المنظّمات الدولية وحركات التضامن إليها؛ وحظر عودة النظام المصرفي ووصول أموال الإعمار وضروراته؛ وتقييد جهود منظمات الإغاثة والعون الإنساني لاستعادة البنية الأساسية من مستشفيات وكهرباء ومياه وصرف صحي ووقود. بل أصبح دخول شاحنات الغذاء جزءاً من تبادلات اتفاقية وقف إطلاق النار وليس حقاً بديهياً. 

- طرح التطهير العرقي لقطاع غزة، بالهجرة (الطوعية تحت التهديد بالإبادة)، كما يطرحها أقصى اليمين الصهيوني الفاشي، وتردّدت الفكرة في الغرب، وآخرها اقتراح بتهجير أهل غزة إلى أندونيسيا. 

- مقترحات تعْهَد بإدارة جديدة دولية وإقليمية لغزة وتحويلها إلى سنغافورة أو دبي أو لاس فيغاس. وكلّها تبدّد أصل القضية أيّ تحرير الأرض من الاحتلال وتضيّع حقّ أهل غزة في اختيار من يحكمهم وتقرير المصير. وتنوب المقترحات عن الاحتلال في نزع سلاح المقاومة وتكريس الحلّ الاستيطاني.

تحرير الأرض أولاً

ينبغي أن تردّ المقاومة الفلسطينية على كلّ ما سبق، وتتقدّم إلى الشعب والأمّة بمشروع شامل للتصدّي يقوم على وحدة نضال حقيقية تنبذ التنافسية الفصائلية وعصبيّتها الضيّقة وممارسات الاستزلام والشللية المزمنة وآفاقها المحدودة نحو وحدة تتجاوز الأطر وتستقطب الطاقات كافة. وأن تكفّ المقاومة عن مسلسل اللقاءات العبثية بين نخب فتح وحماس، التي تستفزّ جماهير الشعب والأمة، ولا تفضي لنتائج إيجابية. 

ذلك أنّ نخب فتح منذ 1968 سعت لتأبيد سيطرتها على منظمة التحرير الفلسطينية وتهميش الطيف السياسي الفلسطيني بل ومنظمة التحرير ذاتها لصالح أمراء السلطة ومليونيرات التنسيق الأمني، وترى في نخبة حماس عدواً لدوداً يريد الاستحواذ على ما لديها من أموال وشرعية ومناصب وموارد واعتراف دولي، ولا اهتمام لديها إلا بما يكرّس المكاسب والأرصدة المالية والهيمنة على قضية الأمة المركزية وتجييرها لصالح العلاقة بأميركا والاحتلال وتوابعهما بالمنطقة. 

هنا ينبغي الالتفات إلى تورّط خطاب المقاومة في إبراز وتوكيد فكرة إقامة الدولة الفلسطينية وسلطتها الوطنية قبل إنجاز تحرير الأرض من الاحتلال الصهيوني. فعلى مدى 15 شهراً، نادراً ما تبرز بيانات المقاومة هذا الأمر كما يجب وحقّ الشعب في إنهاء احتلال لا خلاف عالمياً على عدم شرعيّته وإجرامه وعنصريّته وفاشيّته. فهل أصاب المقاومة شبق السلطة والحكم كما أصاب الثورة الفلسطينية منذ السبعينيات عندما حوّلت موارد كثيرة من مجال العمل الفدائي إلى 8 أجهزة أمنية لإثبات قدراتها في الحكم ومؤهّلاتها في إدارة السلطة؟!