استقالات بالجملة وأزمة قيادة..كيف أطاحت حرب غزة قيادات إسرائيلية؟
ما جرى لـ"إسرائيل" في السابع من أكتوبر ليس حدثا عابراً بل هو حدث هز أركان "اسرائيل"، ولا تزال تدفع ثمنه حتى اليوم، لتتفاجأ بزلزال من الاستقالات التي تفضح حجم الفشل والإخفاقات.
أسبوع مضى على اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس و"إسرائيل"، نُفّذت خلاله دفعتان ضمن المرحلة الأولى من صفقة تبادل الأسرى في مشاهد هزت "إسرائيل"، قابلها على الزاوية الأخرى من الصورة عاصفة استقالات لقيادات عليا في "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، واهتزازات في القمة طالت مفاصل الهرم القيادي فيه، ضربت أكثر المواقع أهمية وحساسية، وشملت عدداً كبيراً من حاملي رتبة لواء، وتركت فراغاً كبيراً في الهرم القيادي لـ"الجيش" ممثلة برئيس الأركان، والسبب الرئيس لكل هذه الاستقالات هو الفشل في السابع من أكتوبر، وما تبعه من فشل مدوٍ في حرب غزة.
أبرز القيادات التي استقالت هو رئيس هيئة أركان "جيش" الاحتلال الإسرائيلي هرتسي هاليفي الذي برّر استقالته بفشل "الجيش" في السابع من أكتوبر، وقال في كتاب استقالته إن هذا الفشل سيبقى يلاحقه طوال حياته، واصفاً فشل المؤسسة العسكرية في "إسرائيل" بالانتكاسة.
هذه الاستقالة تعدّ الأولى منذ سبعة عشر عاماً لرتبة رئيس هيئة الأركان في "إسرائيل" قبل انتهاء ولايته، سبق ذلك بأسبوع واحد فقط تقديم نائبه أمير برعام استقالته التي أثارت جملة من التساؤلات داخل "إسرائيل"، إذ أشار في كتاب استقالته أنها تأتي بسبب قضايا إستراتيجية وأمنية حساسة تتعلق بمستقبل "الجيش" في "إسرائيل"، وتبعه قائد المنطقة الجنوبية يارون فنكلمان. هذه الاستقالات ليست الأولى في مؤسسة "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، إذ سبقها خلال الحرب على غزة استقالة فرقة غزة آفي روزنفليد، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون خليفا، وقائد وحدة الاستخبارات المعروفة باسم وحدة 8200 يوسي ساريئيل، وقائد المنطقة الجنوبية حاييم كوهين.
هناك قاعدة في العرف العسكري تقول: "المنتصر لا يستقيل، المهزوم هو الذي يقدم استقالته فوراً بعد نهاية الحرب". انطلاقاً من هذه القاعدة، ثمة سؤال يطرح نفسه، هل ستتوقف الاستقالات عند هذا الحد؟
الأمر لا يبدو كذلك، وفق متابعتي للشأن الإسرائيلي. كثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية الرسمية التي تناقلت عاصفة الاستقالات، أجمعت على أن هذه الاستقالات ستكون مقدمة لموجة استقالات قادمة لقادة وخبراء كبار في "الجيش" والشاباك، في إشارة إلى ما نشرته صحيفة "معاريف" عن استعداد رئيس الشاباك الإسرائيلي الاستقالة من منصبه بعد إتمام مراحل الصفقة كافة.
هذه الاستقالات تكشف عن مدى الفشل المدوي والتخبط داخل المؤسسة العسكرية في "إسرائيل"، خصوصاً أن استقالة هرتسي هاليفي ليست الوحيدة، بل جاءت ضمن سلسلة استقالات متتالية، وتأتي في ظل تحديات كبرى تواجه "إسرائيل"، إذ لم تعد القضية داخلية، بل هي تعكس مشهداً متأزماً ينمّ عن فشل وإخفاقات كبيرة لـ"الجيش" في "طوفان الأقصى".
شكّلت هذه الاستقالات مؤشراً واضحاً على عمق الأزمة الداخلية في مؤسسة "جيش" الاحتلال الإسرائيلي طوال فترة الحرب على غزة، والتي تم التستر عليها، وكشفت عن فشل و إخفاق كبيرين في إدارة الحرب. بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، أصبحت المؤسسة العسكرية غير قادرة على إخفاء مثل هذه الأزمة العميقة، ويتوقع أن تمر مؤسسة "جيش" الاحتلال في مرحلة أكثر تعقيداً من التوترات غير المسبوقة.
بات واضحاً أن الاهتزازات الكبيرة التي تعرضت لها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ستجبرها على إجراء تغييرات، في محاولة لترميم صورتها داخلياً، والتي تهشمت في قطاع غزة بفعل ضربات حماس وفي جنوب لبنان بفعل ضربات حزب الله. لكن هذه التغييرات لن تكون على مبدأ المعالجة الجذرية للفشل الذريع الذي مُنيت به في الحرب، ما يعكس فشلاً استراتيجياً مستمراً في إدارة الصراع بشكل خاص.
تفسير سلوك الاستقالات بعد أسباب الفشل هو التنصل من المسؤولية الرسمية وبالمعنى العام هو تسليم المفاتيح. لكن، بكل الأحوال، لن يعفي المؤسسة العسكرية في "إسرائيل" من تلك المسؤولية رسمياً، و هذا سيلقي بظلاله على تصاعد درجة انعدام الثقة بين المستويين السياسي ممثلاً بنتنياهو الذي يريد أن يتنصل من تحمّل مسؤولية الفشل عما جرى في السابع من أكتوبر، وبين المستوى العسكري الذي بدأ ينسحب تدريجياً ويسلم المفاتيح؛ اعترافاً بالإخفاق والفشل من دون تحمّل أدنى مسؤولية.
ثمة سؤال يطرح نفسه في هذا السياق، هل سيلتف نتنياهو على المشهد ويلقي بظلال الأزمة على "الجيش" وحده؟ سيناريو وارد، لكن احتمالاته ضعيفة، ربما يحاول نتنياهو الالتفاف على الأزمة مرحلياً من خلال تعيين قيادات عسكرية تنسجم رؤاهم مع رؤاه، كما فعل في إقصاء الوزير يوآف غالانت وتعيين الوزير يسرائيل كاتس بديلاً منه، لكن السياق العام في "إسرائيل" يقول إن "إسرائيل" على موعد مع مزيد من الانقسامات، فقد وضعت الحرب أوزارها ولن يستطيع نتنياهو تجديدها، و"إسرائيل" دخلت فعلياً في نقطة اللا عودة، والعودة إلى القتال بعد الصفقة غير واردة لأنها تعني حرباً جديدة لا عودة إلى مواصلة ما كان، إذ إن "إسرائيل" ستكون وقتها في وضع استراتيجي خطير، إذ ترغب إدارة ترامب الجديدة في إطفاء نار الحرب في المنطقة.
نتنياهو بات أمام خيارين لا ثالث لهما، إما ملاءمة سياساته لأولويات ترامب وتوثيق العلاقة مع إدارته وفقاً لسياساتها الموالية لـ"إسرائيل"، وإما الإبقاء على ائتلافه الحاكم مع سيموتريتش لإشعال الحروب في المنطقة. لقد باتت النزاعات والخلافات تطفو على السطح كل يوم بما يعكس حالاً من عدم الاستقرار الداخلي وهذا بحد ذاته عمق الشعور لدى أوساط كثيرة في "إسرائيل" بالقلق من فشل الحكومة و"جيشها" في حماية أمن المستوطنين.
لم تعد "إسرائيل" قادرة على إخفاء الخلافات والصراعات، وهذا بحد ذاته يعدّ تحوّلاً يعكس عمق الأزمة الداخلية في "إسرائيل" التي تآكل فيها كل شيء بعد هذه الحرب، بدءاً من قوة الردع إلى صورة وهيبة المؤسستين العسكرية والأمنية في "إسرائيل" وحتى السياسية فيها، وهذا مؤشر يكشف حال الضعف في إدارة الصراع مع حماس وحزب الله.
ما جرى لـ"إسرائيل" في السابع من أكتوبر ليس حدثا عابراً بل هو حدث هز أركان "اسرائيل"، ولا تزال تدفع ثمنه حتى اليوم، لتتفاجأ بزلزال من الاستقالات التي تفضح حجم الفشل والإخفاقات. المشهد لن يكون سهلاً بل سيكون مقبلاً على مزيد من التحوّلات الدراماتيكية التي لم تحدث في التاريخ الإسرائيلي من قبل، وستلقي بظلالها على المستويين السياسي والعسكري على وجه التحديد.