عون وخصومه: يربحون بـ"المفرّق" ويربح بـ"الجملة"
يبدو الرئيس ميشال عون مطمئناً إلى أن معركة التدقيق الجنائي بلغت خواتيمها. ومهما تكثَّفت مساعيهم، فإن المسارات القضائية في الداخل أو الخارج يمكن أن تتأخر قليلاً، لكنْ يستحيل أن تتوقف.
من عام إلى آخر، يراكم الرئيس اللبناني ميشال عون الخسائر: ينزعج موظف أو ضابط من عدم ترقيته، أو رئيس بلدية من عدم استقباله، أو مدير محطة من عدم فوزه في مناقصة، أو طامح من عدم ترشيحه، أو مستشار من عدم تغطية تهريباته الجمركية. ويحرد آخرون، ويجتمع الذين شبّوا وشابوا على كره ميشال عون، بعد الادعاء كذباً أنهم كانوا يراهنون عليه، لكنه خيَّب آمالهم، و"يدحشون أنفسهم" ضمن هذه الخسائر. خسائر متفرقة صغيرة، يتسلى بها الناس والإعلام، متخيّلين الثعابين ديناصورات، والقططَ نموراً، والفئرات فيلةً، ويستهلكون بطاريات الآلات الحاسبة في احتساب مجمل الخسارة، مفترضين أن مراكمة هذه الخسائر، بعضها فوق البعض الآخر، تسمح لهم ببناء جدران لعزل الرئيس خلفها.
أمّا الطرف الآخر، المعنيّ بهذا كله، فينشغل عن هذا الصخب "المتكرر المعلوك" بما هو أهم كثيراً بالنسبة إليه. "دَقِّقْ، تَجِدْهم أنفسهم يكررون خبرياتهم عني نفسها منذ عام 1988". وهو، إذا ما تناهى شيء من هذا كله إلى سمعه، يضحك من فائض ثقته بنفسه، ثم يبحث بين الأوراق على مكتبه عمّا سجله من ملاحظات مالية، مكملاً الحديث الجديّ، كأنه غير معنيّ أبداً بكل ما من شأنه شغله عن المعركة الأساسية، وهي اليوم معركتان: التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، والانتخابات النيابية.
كانت معركة التدقيق أشبه بمعركة تحرير للكشوفات المالية المخبَّأة. تحصُّن رياض سلامة خلَّف أشكالاً كثيرة من المتاريس، المالية والسياسية والدينية، مموِّلاً جيشاً هائلاً من المنتفعين منه، والذين يخشون على أنفسهم اولاً من الفضيحة: في موازاة السياسيين والهدر العام والقطاع المصرفي، هناك، في القطاعات السياحية والصناعية والزراعية والرياضية والتعليمية والاستشفائية والثقافية، قائمة كبيرة من المنتفعين، وكذلك في الإعلام طبعاً، والتعهدات والمقاولات والمؤسسات الدينية، في أجنحتها الكثيرة. استنفروا جميعهم للتصويب على العهد، جنباً إلى جنب خصومه التقليديين، الذين اصطفوا إلى جانب بعضهم البعض، وهم: الاشتراكي وأمل والشيوعي والقوات والكتائب والمردة والبيوتات السياسية المسيحية، التي أنهى ميشال عون عقوداً طويلة من مَسيراتها النيابية، و"المستقبل" والمزايدون على "المستقبل"، وجماعات السفارات والإدارة العامة والقطاع الخاص؛ جميعهم وجميعهّن، عبر كل إعلامهم ونفوذهم، جنباً إلى جنب رياض سلامة. لذلك، لم تكن أمراً وارداً إضاعةُ الوقت في الرد أو حتى التوقف عند ملهاة من هنا، وأخرى من هناك.
وفي النتيجة، يبدو الرئيس ميشال عون مطمئناً اليوم إلى أن معركة التدقيق الجنائي بلغت خواتيمها. ومهما تكثَّفت مساعيهم، فإن المسارات القضائية في الداخل أو الخارج يمكن أن تتأخر قليلاً، لكنْ يستحيل أن تتوقف.
بالنسبة إلى الرئيس عون، لم تكن معركة تحرير الحسابات المالية أقل شأناً من معركة تحرير القرار السياسي. في الاثنتين تضامن المتضررون وانتشرت الإشاعات، وتأخر بعض المواطنين أو شكّك البعض الآخر، بينما آمن آخرون وضحّوا وناضلوا.
أمّا المعركة الثانية فهي الانتخابات النيابية المقبلة، بحيث تتراكم استطلاعات الرأي على طاولة الرئاسة الأولى، يقرأها بدقة، وهو الذي أثبت، في ثلاثة استحقاقات انتخابية، أن أحداً لا يجاريه في قراءة الأرقام وإدارتها، من عام 2005 حين كانوا (هم أنفسهم المشكّكون اليوم في نتائج التيار) يقولون إن حجم عون أربعة نواب في أعظم تقدير، وإذ به يفوز بخمسة عشر نائباً، في ظل اطمئنان مُقنع إلى النتائج، ينطلق من تقاطعات الاستطلاعات، بمعزل عمن يقف خلفها من جهة، وثقته الهائلة بعدم تخييب الشعب اللبناني آماله في أي استحقاق سابق من جهة ثانية. "دائماً، كان هناك إعلام وأكاذيب ومال. هذا كله ليس بجديد. الجديد أننا أكثر حضوراً وتنظيماً واستعداداً وقدرة على المواجهة".
وهو، إذ يحجز الجزء الأكبر من يومياته اليوم للقاء المناصرين بعيداً عن الإعلان وشحن معنوياتهم، فإنه يحرص أيضاً على استقبال المرشحين الأساسيين غير الحزبيين الذين يدخلون المكتب، مترددين وقلقين من قانون الانتخاب ونظامه المجحف بحقهم، ويخرجون من عنده فخورين وواثقين وحاسمين ترشيحهم في لوائح التيار الوطني الحر.
ينقل ضيوف الرئيس ميشال عون قوله إنه ربح، في خياره السياسي، حربين ضروسين: الحرب على "إسرائيل"، خاضها حزب الله، وربحها في السياسة ميشال عون. والحرب على التكفير، خاضها حزب الله، وربحها في السياسة ميشال عون. يُسأَل عما سبق، فيكتفي بابتسامة هادئة، مؤكداً صوابية ذلك الخيار. لكنْ، هل ينسق اليوم مع الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله؟ يجيب: لا نتكلم، أحدنا مع الآخر، لكن يفهم أحدنا على الآخر "ع الطاير".
هذا تفاهم – مجتمعين لا زعيمين – سيأخذ مداه مع الوقت، خلافاً لما يعتقد كثيرون.
التفاهم، بالنسبة إلى الجنرال، في بداياته، لا نهاياته.
السياسة، بالنسبة إلى الرئيس، ليست مقدمات نشرات الأخبار والأحداث اليومية "التي يمكن ألاّ نتفق في أي منها مع حزب الله"، وإنما "السياسة هي الخيارات السياسية الاستراتيجية". وفي هذه، يبدو العماد عون فخوراً جداً بأن خياراته المستمَدة من تجارب شعبه الكثيرة، ومن الخلاصات والعِبَر، كانت جميعها مصيبة جداً: "لم يُهزَم خصوم الخارج في حربَي "إسرائيل" والتكفير، وإنما خصوم الداخل والخارج. كان لهم خياراتهم ولنا خياراتنا، وقد هُزمت خياراتهم. سيكون لهذا تداعياته. المسألة مسألة وقت فقط".
وهنا، يستمتع ميشال عون بالحديث، ويُسرف في ربط المجتمعات، والداخل والخارج. يتحدث عن عودة الغرب غصباً عنه إلى الاتفاق مع إيران؛ عن خذلان الولايات المتحدة لحلفائها حين "يجدّ الجدّ"؛ عن عودة جامعة الدول العربية إلى سوريا.
حين يكون الحديث اقتصادياً، سيُذهِل ميشال عون ضيفَه بحضور الأرقام والدقة والمتابعة. وحين ينتقل الحديث إلى الانتخابات، سيستعيد الجنرال جنراليته، محوّلاً مكتبه إلى غرفة عمليات يثق بأنه لن يخرج منها إلاّ منتصراً.
أمّا حين تحضر الخيارات الاستراتيجية، فذلك موضوع آخر، يمثّل بالنسبة إلى الرئيس عون الاستثمار الأهم في مسيرته. وهي خياراته، وتثبت التطورات الدولية يومياً أنها كانت صائبة مئة في المئة، مهما شكّك المستعجلون.
لكن الأهمّ، في حضرة ميشال عون، ليس المسار المالي ولا الانتخابات ولا الخيارات الاستراتيجية، وإنما تلك القدرة المذهلة على تجاوز المسافات وبناء أرضية مشتركة مع ضيفه. كان يفعل ذلك في الرابية حين يستقبل القادمين من القرى البعيدة، فيستذكر بسرعة حوادث متفرقة مع أشخاص من قراهم، حاضرين وغائبين، وما زال يفعل الأمر نفسه، ليُشعر الزائر بأن علاقته الشخصية به ما بعدها علاقة.
ميشال عون يمكن أن يخسر "بالمفرّق" هنا وهناك. يمكن أن يخسر "بالمفرّق" الكثير. يمكن أن تصدق مَن لم يكونوا يوماً معه أنهم كانوا فعلاً معه وخسرهم، لكنه سرعان ما يعود ويربح "بالجملة" كل ما خسره وأكثر. وخريطة طريقه للربح الأكيد "بالجملة" واضحة: عدم التلهي بالمعارك الصغيرة الجانبية الإلهائية، أيّاً كان رأي العام فيها وتفاعله معها، لمصلحة المعركة الأساسية، وهي اليوم التدقيق الجنائي والانتخابات النيابية وترسيم الحدود من أجل المباشرة في استخراج النفط، لتأمين بديل مالي عن التسول. وهو لا يسند ظهره إلى تلفزيون أو منصة أو مزاجية سفير أو أمير، أو إدارة يمكن أن تدير ظهرها له وتصعد في الطوافة وتتركه في المطار، وإنما يبني بيته فوق صخرة صُلبة، اسمها الخيارات الاستراتيجية الصائبة.