عندما يعتدي الإسرائيلي على دمشق ليرد على قمة طهران
قد يقبل الإسرائيلي خسارة أو تعثّراً لمشاريعه في الشرق أو الغرب، ولكن ثابته الأساس في هذه المرحلة يبقى سوريا، نظراً لما أفرزته نتائج الحرب على سوريا، وخصوصاً مع قرب اكتمال الطوق الإيراني حول عنقها النازف أصلاً في غزة ولبنان.
تابع الإسرائيلي قمة طهران الثلاثية بقلق شديد، ليترجم هذا القلق سريعاً بقصف صاروخيّ لمحيط دمشق أدى إلى استشهاد ثلاثة جنود سوريين، بما يؤكد أن الهدف لم يكن انعكاساً لمتابعة استخبارية ميدانية في مواجهة التموضع الإيراني المرعب، وجذوره تمتد كل يوم، وإنما رسالة سياسية أمنية ضد أطراف القمة الثلاثة في قلب العدو الثابت إسرائيلياً؛ سوريا.
أن ينجح الإيراني في استضافة بوتين، في أول سفر له خارج روسيا منذ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، مع إردوغان اللاعب الإقليمي والدولي في ميدان أوكرانيا، كما في تمدد "الناتو" في أوروبا، في ظل تناقضات جذرية في الميدان السوري، يعني ذلك للكيان العبري تحولاً جيواستراتيجيّاً، خاصة أن يأتي بعد النتائج المتواضعة لقمة بايدن في جدة، مع استمرار الخلاف الأميركي الإسرائيلي على الاتفاق النووي المزمع إحياؤه مع إيران.
قمة المصالح في طهران، بدت للإسرائيلي اقتراباً من حَرَم مبادئها السياسية، بما يعني احتمالية اقتراب التركي والروسي من السباحة في فضاء المبادئ الإيرانية، ولو جزئياً، خاصة عبر الثغر السوري الذي يثير شهية الإسرائيلي وقلقه في كل تحولاته، لذا بادر إلى استثمار سياسة "السماء السورية المفتوحة" قبل تحوّلها إلى "أوانٍ مستطرقة"، بحسب ما عبّرت عنه صحيفة "هآرتس" العبرية، فهل جاء هذا العدوان الإسرائيلي، في محيط دمشق، فجر الجمعة، كردّ سياسيّ أو رسالة ممهورة بالدم، أم لعلّه جسّ نبض لمستوى ما تغيّر بعد القمتين في طهران وجدّة؟
جاءت قمة طهران في موعد سياسي يغصّ بالتناقض الإسرائيلي الإقليمي والدوليّ، فهو في تطبيع غير مسبوق مع التركي، في ظل النهم التركي لغاز المتوسط عبر النافذة الإسرائيلية كاشتراط أميركي، ولكن دخول المصري مع الأوروبي برعاية إسرائيلية في هذا الخصوص، ربما نغّص على التركي حساباته المتسرعة، فـ"انحاز" إلى شرقه المتحفز، وإن ليستكشف الطريق عبر الفرصة الإيرانية، في ظل أولوية الصراع مع الكردي في سوريا والعراق، وهي أولوية داخلية دائمة، ولكنها اليوم أكثر حديّة مع الإسرائيلي؛ نظراً إلى خصوصية دوره المحوري في استغلال المربعات الكردية ضد عدوّه اللدود إيران، وفي الوقت نفسه، فإن حسابات التركي داخل سوريا تتضارب، بقوة، مع الحرص الإيراني الروسي على تنظيف سوريا من كل دخيل وطئها من غير إذن سوري رسمي.
يبدو الامتعاض الإسرائيلي من قمة طهران مبرراً، نظراً إلى طبيعتها، فهي تضم ثلاث قوى شرقية فاعلة في تقرير مصير المنطقة، وقد نجحت في طيّ بعض مفاعيل قمة جدّة المتواضعة، وإن دفعت التطبيع مع السعودي خطوة إلى الأمام، ولكنها غير كافية للإسرائيلي الطامح لتشكيل ناتو عربي إسرائيلي مكتمل الأركان، في ظل التريث الأميركي السعودي، بسبب أولوية الحرب في أوكرانيا، أميركياً، تحت إلحاح ضخ المزيد من النفط السعودي قبل الشتاء الأوروبي القادم، بلا غاز روسي كاف، مع بقاء ارتفاع الأسعار على حاله، وهو ما أشعر الإسرائيلي بتراجع أولوية اندفاعاته في الحسابات الأميركية.
وطبيعيّ أن يتفاقم القلق الإسرائيلي، إذ جاءت هذه القمة، وقد بدأ الروسي يعدّل توازناته مع الإسرائيلي، سواء في الأمم المتحدة، أو في تعليقه أنشطة الوكالة اليهودية في روسيا، وسعيه إلى حلّها نهائياً، مع بياناته المتصاعدة عن خسائر المرتزقة الإسرائيليين في معارك أوكرانيا، وهو ما واكب خروج الإسرائيلي نهائياً من معادلة القبض على وسط العصا، مع استلام لابيد رئاسة حكومة الكيان، وهو الليبرالي الصهيوني المؤيد بقوة للسياسة الأميركية في أوروبا.
ويبدو تصاعد التوتر الميداني على الحدود العراقية التركية، انعكاساً أو تفريغاً للتناقضات التركية الإيرانية الروسية، خارج الملعب السوري، وقد بادر الإسرائيلي إلى إشعال سكونه الحذر، ربما لخلط الأوراق في مواجهة هذا التفريغ الحاصل ضمناً كنتاج لقمة طهران، حيث التناقض أقل عبر الميدان العراقي، نظراً إلى قبض الأميركي على أكثر مفاتيحه، بما يجعل تخفيف التناقض في سوريا أنفع للجميع، خاصة للطرف الروسي.
ماذا ربح الإسرائيلي من قمة جدة؟ وماذا خسر من قمة طهران؟
هذا هو السؤال الذي يلقي بظلاله على الإعلام العبري، ويؤرق رئيس حكومة عبريّاً طامحاً، يجد نفسه بعد قمة طهران، أمام مستجد يتطلب تجاوزه، أو إطفاء وهجه، ليزحف عبر التطبيع مع الرياض والرباط في التمدد شرق آسيا وشمال أفريقيا، بما يطوّق كل طموح مضاد، فلا يبقى غير الإسرائيلي يصول ويجول مستثمراً "عالم ما بعد الربيع العربي"، حتى في ظل أصداء الحرب في أوروبا.
قد يقبل الإسرائيلي خسارة أو تعثّراً لمشاريعه في الشرق أو الغرب، ولكن ثابته الأساس في هذه المرحلة؛ يبقى سوريا، نظراً لما أفرزته نتائج الحرب على سوريا، وخصوصاً مع قرب اكتمال الطوق الإيراني حول عنقها النازف أصلاً في غزة ولبنان، لما يتمتعان به من استعصاء لم تعتده، فكيف تعتاد على مستجد في سوريا؟ لهذا، تبادر إلى استهدافها، وهي في هذا العدوان تتفحص مدى خسارتها من قمة طهران، أو تسعى إلى خفض حجم هذه الخسارة.
وسواء كان هذا العدوان المتجدد على دمشق، رداً أو جس نبض، فإن أطراف القمة في طهران، وخصوصاً الإيراني، ربما فهموا أولوية الاندفاع الإسرائيلي، بما يلقي في أولوياتهم، في المقابل، ضرورة إغلاق بوابة السماء السورية المفتوحة، لتطرق الأواني هزيع ريحها، فلا يمكن لدمشق أن تتألم كل فجر، فيما تنعم ليالي "تل أبيب" بنسمات بحر يافا، وقد طال اختناقها.