عناد نور شمس وقصة البطل "أبو شجاع"
تمثّلت أهداف اجتياح طولكرم، بالقضاء على كتيبة نور شمس، وخاصة اغتيال قائدها، وتحويل منطقة طولكرم من مربّع مواجهة تشتعل عند أدنى توغّل إسرائيلي، كحال جنين، إلى منطقة خضوع يمارس فيها المحتل شهيته بالقتل والهدم والاعتقال.
مخيم صغير وشاب بسيط وكتيبة فتيّة، إنها معادلة المخيم المتربّع على جبين طولكرم، والمقبل مع النكبة من حياض حيفا، نحو سهل جنزور في جنين، وكأنها استراحة محارب، وأنّى للمحارب أن يستريح، حتى بعد أن استقرّ المخيم شرقاً ليس بعيد عن مدينة طولكرم، وقد "تفلوذت" قبضاته على مصارعة المحتلين، والتوأمة الأبدية مع مخيم جنين، فكان نور شمس وكانت كتيبته وكان البطل أبو شجاع.
أبو شجاع؛ محمد الجابر، قصة شعاع تشكّل من إشراقة شمس، اسم على مسمّى في الشجاعة المحمدية وهي تعانق ضوء الغسق، وقد كان قبل 53 ساعة من المواجهة والاجتياح أيقونة شعبية للجهاد والعناد، فكيف به والحال أنه بعدها؛ قد ارتقى شهيداً، ثم صار جريحاً، ثم متوارياً عن الأنظار، حتى غرّد بالسلامة همساً في أسماع محبّيه، لينقلب سحر المحتلين وأدواتهم توحّشاً طال البشر والحجر والشجر.
استشاط المحتل غضباً بعد 20 ساعة من الاجتياح، وقد تكشّف لديه أنّ نشوته بقتل أبي شجاع ذهبت مع أدراج الرياح، فما زال الشبح في كل مكان، هنا قتلناه بالقصف الجوي، وهنا وصلتنا معلومة العملاء بوجوده، وهنا أكدت لنا مصادرنا الموثوقة أنه سقط قتيلاً وسط أربعة من المطاردين، فهل يُعقل أنه نجا؟ إذاً لنواصل الاجتياح 20 ساعة أخرى تتبعها 20 حتى نقتل القائد، لتتهاوى كتيبة السرايا التي جعلت من طولكرم قطعة من جباليا والشجاعية في صمود غزة واستعصائها.
قتل وتدمير وتنكيل وتجريف ونسف؛ اعتقالات وتحقيقات ميدانية وشتى فنون التعذيب، للوصول إلى شخص واحد، ليست فيه مواصفات استثنائية، سوى كاريزما تجذب فتية المخيم، وتصميم على القتال حتى الشهادة، ونصب للكمائن وإن بأساليب بدائية، بما تطلّب إسرائيليّاً اجتياح المخيم الصغير 23 مرة متتابعة خلال الشهور الماضية.
ومع كل اجتياح يزداد عناد المخيم، وتتسع فصول قصة البطل أبي شجاع، وكان من فصولها الأخيرة حملة محلية مسعورة نفّذها الطابور الخامس من المهزومين على هامش الطوفان، لتجعل من أيقونة النضال؛ تاجر مخدرات وحرامي سيّارات ومُسعِّر فتنة، وقد ذهبت كلّ محاولاتهم أدراج الرياح، وهو يتخندق وسط الميدان كغصة صبّار في حلوق المحتلين والمهزومين.
أربعة عشر شهيداً من أهالي المخيم، وصلت جثامينهم إلى مشافي المدينة، وتسع إصابات في صفوف جنود الاحتلال، مما اضطر المحتل للكشف عنهم، وقد شوهدت جرافة الـD9 وهي تتمزّق بفعل عبوة انفجرت بها، مما تطلّب شحن هذه الجرافة عبر شاحنات نقل عملاقة، بما جعل المعركة تحتدم وسط تعزيزات إسرائيلية متواصلة، ومتابعات إعلامية إسرائيلية حثيثة، ربما لتنقل الاهتمام الإسرائيلي الشعبي، بعيداً عن التردّد الإسرائيلي في مواجهة الهجوم الإيراني، وبعيداً عن التأجيل المستمر لاجتياح رفح، وانسداد الأفق في غزة.
تمثّلت أهداف اجتياح طولكرم، بالقضاء على كتيبة نور شمس، وخاصة اغتيال قائدها، وتحويل منطقة طولكرم من مربّع مواجهة تشتعل عند أدنى توغّل إسرائيلي، كحال جنين، إلى منطقة خضوع يمارس فيها المحتل شهيته بالقتل والهدم والاعتقال، من دون استعصاء.
ولكن الاجتياح فشل رغم الخسارة الكبيرة بهذا العدد الهائل من الشهداء، ومستوى التدمير والتجريف للبنية التحتية، بما أحال المخيم إلى منطقة منزوعة الحياة.
فشل الاجتياح في تحقيق أيّ من أهدافه، وشكّل صمود المخيم حالة جذب دفعت الضفة الغربية برمّتها إلى المواجهة، في سلسلة فعاليات انطلقت على طول الضفة وعرضها، تمثّلت في مواجهات عسكرية واسعة مع كلّ حواجز جنين ومستوطناتها الشرقية، إلى النبي الياس في قلقيلية، وسردا والمغير في رام الله، حتى بيت عينون في الخليل، مع إضراب شامل صارم في كل الضفة، ومسيرات ووقفات، نقلت الضفة نقلة نوعية لعلها الأبرز منذ السابع من أكتوبر، بل منذ نفق الحرية قبل عامين ونصف العام.
أدرك المحتل وقع هزيمته أمام نور شمس والقائد أبي شجاع، خاصة بعد ظهوره في مسيرة تشييع الشهداء، وكيف هرعت إليه الجماهير لتحمله على الأكتاف، وعيون الاحتلال وأدواته ترقب المشهد والغيظ يأكل أكبادها، فماذا قالوا؟ "هرب في ملابس النساء" هكذا نشرت بعض الصحف العبرية القريبة من جهاز الشاباك، و"أصيب أبو شجاع وتمّ أسره ثم أخلوا سبيله، لماذا". هذا ما تداوله الطابور الخامس المحلي، وقد عزز هكذا إشاعة بصورة يقول إنها لأبي شجاع وهو ملقى على الأرض وسط الجنود، ليتضح أن هذه الصورة تعود لعام 2022 لجريح آخر من نور شمس، كما اتضح أن القائد لم يغادر عرين صموده رغم كل حملات التمشيط.
يدرك أبو شجاع، وفق كلماته البسيطة التي صرّح بها عند تشييع إخوانه، أنه شهيد مع وقف التنفيذ، إن لم يكن اليوم فمع الغد القريب البعيد، ولكلّ نفس أجل، قال ذلك وهو يتحدّى "جيش" الاحتلال أن يكشف عن خسائره في حارتَي العيادة والمنشية في أزقة المخيم، وقد جدّد اعتصامه بحبل الله في مواجهة محاولات اغتياله معنوياً، وأنّ بوصلة قتاله ستبقى في مواجهة المحتلين مهما حاول البعض جرّ الكتيبة خارج هذا الإطار.
بين حيفا في الداخل المحتل، وبين جنزور الممتدة في فم جنين، تشكّلت خيوط نور شمس، وصاغ بريقها محمد الجابر الذي لم يعد يُعرف إلّا بأبي شجاع، فكانت قصة كتيبة السرايا وهي تستعصي على الرواية الشفوية، لتترجمها بنادق الفتية مع كل مداهمة أو توغّل، رصاصات رفض وعنفوان تقضّ مضاجع المحتلّين.