عن محور المقاومة وحرب تشرين.. إعادة صياغة عوامل النصر
كيف نجح محور المقاومة في إعادة صياغة عوامل النصر على الكيان بما يظهر أن هزيمته أمر حتمي لا يحكمها إلا عامل الوقت؟
عربياً، لم يحظَ حدث في التاريخ الحديث بالاهتمام والتقدير الذي حظيت به حرب تشرين، إذ استطاعت الجيوش العربية في تلك الفترة أن تنفي مجموعة من الإسقاطات التي حاول الإعلام العبري، ومن خلفه الغربي، أن يسوقها على أنها من الحقائق المطلقة، مثل تفوق العقل الإسرائيلي في الاستراتيجيا وعدم امتلاك المقاتل العربي ما يمكّنه من استخدام الأسلحة المتطورة بطريقة مدروسة لتحقيق أهداف محددة سابقاً.
إضافة إلى ذلك، أمكن للقيادات السياسية، من خلال هذه الحرب، أن تثبت قدرتها على المبادرة الميدانية لناحية تحديد توقيت الطلقة الأولى، إضافة إلى نجاحها في إظهار إمكانية حدوث تحالف عربي عريض تتكامل فيه المشاركة العسكرية في المعركة مع الدعم اللوجستي والسياسي الذي تمثل بوضوح في موقف الدول العربية النفطية التي رفعت سعر نفطها بنحو 17% بالتوازي مع خفض إنتاجها.
وإذا كان الإعلام العربي، مدفوعاً بعاطفة شعبية وبما رشح عن قادة الكيان الإسرائيلي في تلك المرحلة من تصريحات أظهرت حجم المأزق والهلع الذي طغى في تلك المرحلة على الوعي الصهيوني، قد حاول إظهار نتائج حرب تشرين على أنها تتخطى الإنجاز العسكري الميداني ليُبنى عليها كإطار يُظهر إمكانية هزيمة "الجيش" الإسرائيلي واستعادة الأراضي، فإن النتائج النهائية العسكرية والسياسية تظهر عكس ذلك، إذ إن الهجوم الإسرائيلي المضاد في سيناء والجولان يفترض إعادة تقييم النتائج النهائية للحرب، وذلك من خلال تقديم قراءة واقعية لما تم تحقيقه على مستوى الردع والمكاسب السياسية.
قد يكون تصريح الرئيس المصري أنور السادات، حين أعلن أن حرب تشرين هي حرب تحريك وليست حرب تحرير، صالحاً لإعادة تقييم الموقف الرسمي العربي الحاكم لكيفية التعاطي مع الكيان الإسرائيلي.
وبالتالي، فإن منطلقات المعركة من الناحية المصرية لم تكن أيديولوجيا معبرة عن الصراع التاريخي بين العرب والكيان، إنما تكتيكية فرضتها ظروف مصرية خاصة.
وإذا كان من الضروري التفريق بين الهدفين السوري والمصري، إذ كان الرئيس السوري حافظ الأسد ميالاً إلى استكمال الخرق الذي حققته القوات العربية في بداية المعركة نحو التوغل داخل الحدود الفلسطينية بهدف تحريرها، فإن الموقف المصري الذي كان حاكماً ومؤثراً وفاعلاً بشكل أكبر أظهر محدودية الهدف من الحرب انطلاقاً من اعتبار الإنجازات الأولية في المعركة مدخلاً لتسوية علاقة مصر مع الولايات المتحدة ودافعاً ضرورياً لتحريك المفاوضات مع الكيان الإسرائيلي.
لذلك، كان ذلك المسار المصري واضحاً من خلال تواصل القيادة مع الولايات المتحدة الأميركية وإرسال إشارات الجنوح نحو التسوية عبر خطابات الرئيس السادات المتكررة التي أعلن خلالها تحكم الولايات المتحدة الأميركية في 99% من أوراق اللعبة السياسية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي.
بطبيعة الحال، لم يخطئ الرئيس السادات في تقديره الدور الأميركي وحجم اهتمام إدارة ريتشارد نيكسون بالوضع في الشرق الأوسط، إذ شكل الجهد الاستثنائي الذي قام به وزير الخارجية الأميركي هنري كسينجر دليلاً على مدى هذا الاهتمام.
وعلى الرغم من الدعم السوفياتي الذي وصل إلى حد التهديد بالتدخل المباشر في المعركة، لم تتردد الإدارة الأميركية في مساعدة الكيان الإسرائيلي عسكرياً، بما ساعد في إنجاح الهجوم الإسرائيلي المضاد، ومن ثم وضع أسس قرار أممي يدعو إلى وقف إطلاق النار ورسم أطر تسوية تحفظ مكتسبات الكيان الإسرائيلي وتقلل من أهمية إنجازات الجيوش العربية.
من خلال ما تقدم، يمكن الركون إلى مجموعة من النتائج التي تصلح لتقييم الرؤية التي حكمت واقع الأنظمة العربية في صراعها مع الكيان الإسرائيلي؛ فبعد إشكالية التعاطي مع الكيان انطلاقاً من الظروف المرتبطة بكل دولة على حدة، إذ تخلى الرئيس السادات عن حليفه السوري، وانطلق منفرداً في رحلة البحث عن تسوية مع الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، وقدم الكثير من التنازلات التي توّجها بتخليه عن خيار الرئيس جمال عبد الناصر بالتحالف مع الاتحاد السوفياتي وتبني الخيار الاشتراكي من جهة، وزيارته الكيان الإسرائيلي وإلقاء خطاب في الكنيست من جهة ثانية، ظهر واضحاً مدى استعداده للتخلي عن القضية الفلسطينية من خلال قبوله بتنازلات إسرائيلية شكلية تمظهرت في اتفاقية "السلام" الفلسطينية الإسرائيلية في أوسلو بعد مماطلة إسرائيلية امتدّت أكثر من 15 عاماً.
من ناحية أخرى، قدم الرئيس السادات للإدارة الأميركية فرصة إطلاق مسار المفاوضات الأحادية مع الدول العربية، إذ لحقت السلطة الفلسطينية والأردن بمصر.
وإذا كان من الممكن القول إن زيارة السادات إلى الكيان أعادت سيناء إلى السيادة المصرية، فإن أهم نتيجة لكامب ديفيد تجسدت في شق الصف العربي وتحييد مصر، إضافة إلى تمكين الكيان الإسرائيلي من الاستفراد بالفلسطينيين ودفعهم إلى توقيع اتفاق يمكن وصفه بالاستسلام غير المشروط، من دون أن ننسى مساهمة كامب ديفيد في كسر الحاجز النفسي الذي كان مانعاً لأي تطبيع محتمل بين الدول العربية الأخرى والكيان، ويمكننا أن تعتبر "اتفاقات أبراهام" ومسار التطبيع مع السعودية نموذجاً.
وبناء عليه، شكلت هذه التجربة إطاراً لاستخلاص الدروس والعبر لدى محور من المقاومات التي كلّلت جهدها في السنوات الأخيرة بتبني استراتيجية وحدة الساحات، فالإطار الأيديولوجي الذي يمتد عبر ساحات المقاومة لا يفصل بين الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة الأميركية، ويؤكد أن المقاومة ضد الكيان لن تنتهي إلا بعد طمسه والقضاء عليه.
وبناء عليه، ستنتفي فرضية قيام أي طرف من أطراف المحور بالاعتراف بالكيان أو التسوية معه بشكل منفرد. وإذا حصل ذلك، فإنه سيصنّف في خانة الخيانة التي ستفرض اندثاره كإطار تنظيمي. وإذا ربطنا هذا الإطار الأيديولوجي بالمعتقد الديني، فإن القناعة باندثار الكيان ستجد جذورها في القرآن الكريم الذي يجسد دستور كل هذه المقاومات.
من خلال ذلك، سيظهر التحول الكبير في استراتيجية إدارة المعركة، إذ تم تكريس الولايات المتحدة كشريك عضوي للكيان بعدما اعترفت بها الأنظمة العربية كوسيط صالح لإدارة الأزمة. وبدلاً من التعاطي مع الكيان بصفته أمراً واقعاً وقانونياً، لا تكاد تخلو خطابات قادة المقاومة من الإشارة إلى حتمية إزالة "إسرائيل".
وبالتأسيس على هذا الإطار الأيديولوجي، سيظهر الجانب النفسي لناحية كسر الصورة النمطية التي تكرست حول الجندي الإسرائيلي على أنه لا يقهر. وإذا كان ذلك قد ظهر جلياً من خلال تحرير جنوب لبنان ومن خلال المعارك التي خاضتها قوى المقاومة في جنوب لبنان وغزة، وأخيراً في الضفة، فإن الخطاب المقاوم سيقدم دليلاً إضافياً على مدى استخفاف قوى المقاومة بقدرات "جيش" الكيان.
وفي هذا الإطار، عملت قوى المقاومة على نقل الصراع مع الكيان الإسرائيلي من مرحلة التسليم بالتفوق الإسرائيلي وقدرته على تحييد مدنه ومستوطناته والبحث عن معادلات ردع دفاعية ضده إلى مرحلة أساسها الركون إلى توازن الرعب، من حيث تأكيد القدرة على استهداف عمقه واحتلال أراضيه.
أما باكورة ما توصلت إليه قوى المقاومة بعد دراسة حرب تشرين 1973 وما قبلها وما بعدها، فهو إعلانها التزامها المتبادل بفتح كل الجبهات في آن واحد متى تطلب الأمر ذلك أو بناء على طلب إحداها.
من خلال ذلك، استطاعت قوى المقاومة أن تتخطى عقدة التفريق بين الأنظمة العربية التي نجح الكيان الإسرائيلي، ومن خلفه الولايات المتحدة، في تكريسها، إذ إن الطمأنينة الإسرائيلية التي سادت في مرحلة الصراع بين الكيان الإسرائيلي والأنظمة العربية تحوّلت إلى حالة من القلق والذعر تبدو واضحة في كل تصريحات قادة الكيان السياسيين والعسكريين على حد سواء. وبناء عليه، نجح محور المقاومة في إعادة صياغة عوامل النصر على الكيان بما يظهر أن هزيمته أمر حتمي لا يحكمها إلا عامل الوقت.