عن حرب أخرى ربحناها
سابقاً كان الأمر مربكاً فيما هو اليوم واضحاً: لا يُسمِعنّنا أحد منكم أيّ محاضرات، أيتها الكتل التي تتداخل فيها الخلفيات السياسية المفضوحة بالحسابات المصرفية والطموحات الشخصية.
مع بدايات الحرب السورية، امتلأت المقاهي بصخب مجموعات تتجنّب النقاش السياسي، وتتلطّى خلف مجموعة قيم إنسانية لتقنع كل من يمر بها بأن موقفها مبدئي، لا تحكمه خلفيات سياسية وحسابات مصرفية وأهداف مستقبلية، إنما المبادئ: هم مع الحريات وحقوق الإنسان، وضد القتل. ولا مجال لعرض الوقائع أو النقاش: مع القتل أو ضده.
للحظاتٍ، كان الأمر مربكاً، فها هم كتلة ضمائر تحلّق في فضاء الحرية، فيما أنت تكبّل نفسك بنفسك: أنت مع القتل وهم ضده، أنت مع السلطات الغاشمة وهم مع الشعوب المسحوقة. تسمع حين تنام، في حال تمكنت من النوم، أصوات معذبين في السجون يردّدون اسمك، وإذا نظرت إلى يديك فسترى بقايا الدماء، فيما أشلاء ضميرك وروحك وقلبك موزّعة في الغرفة! أنت مع الشر، هم مع الخير. أنت الشر، هم الخير. يا لها من أيام.
ثم تمرّ الأيام ليتّضح المشهد أكثر، بكل ما فيه من دواعش وتكفير، فتبحث عنهم، للاطمئنان على مبدئيّتهم، فتراهم يلوّحون بصور البغدادي وإخوانه، يتباهون بقطع الرؤوس، يبرّرون السبي، ويهلّلون لارتكابات "الثورة" و"الثوار". غايتهم تبرّر الوسيلة، والغاية ليست المجتمع وحريته وتطوره، بل تصفية الحسابات السياسية، من دون إنسان وحقوق إنسان وحريات وغيرها. ترى ضميرك في مكانه، فيما أشلاء ضمائرهم وإنسانيتهم تملأ الفضاء: المنافقون الذين كادوا يشكّكونك في نفسك يهلّلون للقتل، وللخطف، ولتفجير الحافلات والمباني السكنية والمستشفيات وكل أشكال الإجرام وأنواعه، قبل أن ينكفئ الدواعش فينكفئون بدورهم إلى جحورهم بضع سنوات.
ثم يأتي الـ17 من تشرين الأول 2019 فيزحفون نحو الخارج مجدّداً، متأبّطين كتاب المعرفة لتحديد الحق والباطل مجدّداً، وتوزيع شهادات حسن السلوك والنياشين. ومرة أخرى يتجنّبون النقاش السياسي، ويتلطّون خلف مجموعة قيم إنسانية لإقناع كل من يمرّ بهم بأن موقفهم مبدئي، لا تحكمه خلفيات سياسية وحسابات مصرفية وأهداف مستقبلية، إنما مبدأ محاربة الفساد والتخلص من الفاسدين. ومرة أخرى، يفرضون ذلك الحصار المعنوي والأخلاقي حيث لا يمكن النقاش: مع الفساد أو ضد الفساد. لكن إذا كان فضحهم قد تطلب أسابيع في بداية الحرب السورية، فإن فضحهم في الـ17 من تشرين تطلّب بضعة أيام فقط. فهم ضد الفساد، لكنهم لا يأتون على ذكر فؤاد السنيورة وملياراته، ويدافعون عن رياض سلامة الذي جعل من شاشاته وإعلامييه شاشاتهم وإعلامييهم، ولا يأتون على سيرة المجالس والهيئات والصناديق، ويقفلون الطرقات أمام الناس فيما يفتحونها لوليد جنبلاط، ولا يذكرون إطلاق وزير جنبلاط النار عليهم، ولولا "البواخر" لما وجدوا في كل المسيرة الحريرية ما يتوقفون عنده، فيبلعون ترياقهم بكل ما فيه من سمّ، ويعودون بكل نفاقهم إلى جحورهم.
أخيراً، أُخرِجوا مجدّداً. المنافقون الذين لم يشعروا بالحاجة إلى التضامن مع انتفاضة الكثير من الأميركيين ضد العنصرية إثر مقتل جورج فلويد، ولم يوقظهم صخب تقطيع الكاتب جمال خاشقجي في السفارة السعودية في إسطنبول، ولم تؤثر كل الارتكابات الأميركية – الخليجية – الإسرائيلية الحربية في مزاجهم، هبّوا فجأة بسمومهم ونفاقهم وقلة حيائهم، هاتفين ضد الحرب الروسية على أوكرانيا، لأنهم مرة أخرى، ضد الحرب وضد القتل. لكنّ فضح هؤلاء والاستهزاء بنفاقهم لم يتطلبا أسابيع ولا أياماً أو حتى ساعات هذه المرة، حيث بات الوعي العام أكبر بكثير من أن يُضحك عليه ولو لدقائق:
حين تقطع أوكرانيا مياه نهر الدنيبر عن شعب القرم عبر تشييد سد خرساني مخالف لكل قواعد التوزيع العادل للمياه، لا يُسمع لهم صوت ينتفض ضد التعطيش، لكن حين تتحرك روسيا لهدّ السد وإعادة المياه إلى مجاريها يصبحون ضد القتل.
يحق للولايات المتحدة أن تتدخل عسكرياً في سوريا لدعم المجموعات الكردية المسلحة ووضع يدها على ثروة الشعب السوري النفطية، لكن لا يحق لروسيا التدخل في أوكرانيا لدعم الإقليمين المستقلين اللذين يتعرضان لكل أشكال الاضطهاد والتمييز من السلطات الأوكرانية.
يمكن لأوكرانيا مواصلة انتهاك اتفاقية مينسك لأكثر من سبع سنوات، من دون أيّ مبالاة من المجتمع الدولي، ثم يستفيق الأخير بعد العملية الروسية لمطالبة موسكو باحترام "مينسك" التي تجاهلوها وأهانوها واستخفّوا بمندرجاتها.
يؤيد هؤلاء الأفاعي الحرب ولا يقبلون أبداً أن يقال عنها إنها عبثية حين يكون المعتدي سعودياً والمعتدى عليه يمنياً، ثم يصبحون دعاة سلام ومحبة و"فري هاغس" حين يصاب عمود إسمنتيّ في مطار سعوديّ بصاروخ يمنيّ. يحتفلون حين تدمّر الطائرات السعودية – الأميركية المباني السكنية فوق أطفال صنعاء، ثم يفقدون القدرة على السيطرة على دموعهم حين يدافع الصيني أو الروسي أو العراقي أو اللبناني عن نفسه. يحتفلون ألف مرة ومرة بمشاهدة إعدام الدواعش لعناصر من الجيش السوري أو الجيش اللبناني بفرح ما بعده فرح، ثم تتراكم الأوجاع الإنسانية في معدتهم حين يرون جثة داعشيّ من أبطالهم. الرئيس الروسي ديكتاتور في نظرهم، أما الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب فمثال أعلى يحتذى في احترام الديمقراطية والمؤسسات وتداول السلطة.
هؤلاء الذين امتهنوا السير في جنازات قتلاهم، يؤيدون الحرب ولا يقبلون أبداً أن يقال عنها إنها بشعة أو قذرة أو مهينة لإنسانيتنا حين يكون القاتل أميركياً، لكنهم يستنفرون ضد الحرب حين تخدش نتائجها طموحاتهم. لا تسمع لهم صوتاً حين تطرد الجامعات الأوروبية بكل وقاحة عنصرية الطلاب الروس من دون أدنى مبالاة بحقوق الإنسان وغيرها، ولا تقرأ لهم تغريدة حين تقمع الشرطة الفرنسية التظاهرات وتعتدي بالضرب على أكثر من 2500 متظاهر، يخسر بعضهم إحدى عينيه، فيما تضج مواقع التواصل بصخبهم حين تفرّق الشرطة الروسية تظاهرة.
يؤيد المنافقون تفجير "إسرائيل" أبراج غزة فوق السكان بوصفه دفاعاً مشروعاً عن النفس، فيما يستنفرون اليوم ضد الدفاع الروسيّ الحقيقيّ عن النفس. وهم يصدقون طبعاً أكاذيب معلميهم عن المتطرفين والوحوش هنا وهناك، لكنهم يستهزئون بالرواية الروسية عن النازية الأوكرانية. يعيبون على حزب الله إرساله الخبراء إلى اليمن والعراق، ولكنهم يحتفلون بإعلان الأوكران استقبال المقاتلين من كل دول العالم.
هؤلاء الذين يمضون العمر في المحاضرة فينا ضد التبرير، ثم ينكبّون على تبرير الاعتداء الإسرائيليّ على المحتفلين بمناسبة "الإسراء والمعراج" في باب العمود في القدس المحتلة. هم مع حرية الرأي والتعبير المطلقة في لبنان حين يتعلق الأمر بشتم رئيس الجمهورية وتعليق مشانق تشبه ثقافتهم في وسط بيروت، لكنهم يلوذون بصمت الجبناء حين "يُبهور" وزير الداخلية على مؤتمر صحافي أو لقاء تضامني مع المعارضة البحرينية. إنسانيون جداً حين يكون اللاجئ أوكرانياً أبيض البشرة، ومنكفئون جداً حين يكون اللاجئ سورياً أو أفريقياً. هؤلاء الأفاعي الذين يقيمون بيننا هم أبشع بكثير ممّا يمكن للوصف أن يصفهم.
هنا أيضاً، على هذا المستوى، تحقق انتصار كبير. ففي موازاة انتهاء أسطورة التفوق العسكري للولايات المتحدة وحلفائها بعد عجزهم عن الفوز بحرب واحدة في العقدين الماضيين، خسروا أيضاً التفوق الإعلامي بفضل ردّ المناوئين للولايات المتحدة وحلفائها الصاع صاعين على مواقع التواصل الاجتماعي، وها هم يخسرون سلاح الردع الأخلاقي بوصفهم القيّمين على الضمير الانسانيّ، حيث بات يمكن لكل عاقل وضع عينيه في عيونهم والقول لهم بكل جرأة إنهم من دون ضمير ومن دون أدنى حسّ إنساني ومن دون أخلاق، لا بل هم أسوأ من هذا كله بتجارتهم المفضوحة بالضمير والإنسانية والأخلاق.
سابقاً كان الأمر مربكاً، فيما هو اليوم واضح: لا يُسمعنّنا أحد منكم أيّ محاضرات، يا كتلاً تتداخل في عقدها الخلفيات السياسية المفضوحة بالحسابات المصرفية والطموحات المستقبلية؛ فقد نفاقكم كل سحر وتأثير، حاضروا بأنفسكم واعتذروا عن كل خياناتكم الإنسانية قبل أن تُسمِعوننا فحيحكم.