طلال سلمان.. عهداً بالبقاء "على الطريق" أبا أحمد
رحل طلال سلمان مكسور الجناح بعد غصّة حارقة أرغمته على أن يترجّل عن جواده عام 2017، فلم يعد يكفي التفتّت والانهيار العربي قلم الرصاص؛ ليكون عامود خيمة تظلّل المقاومة والفدائيين.
أوّل عهد بطلال سلمان كان مقالة عن "الأسعدية وجبل عامل" لا تراعي صلة القربى مع أم أحمد (زوجة طلال) وأخيها عماد الأسعد، فكادت تتسبّب "بمشكلة عائلية". والشاهد أن كامل الأسعد استنفرته مقالة صحافية تراءت له عيّنة من خطة طلال لصبِّ الزيت على نار أشعلتها "السفير" في هشيم الطبقة السياسية ورجال نظامها وإداراتها الأمنية، فاستنفرت فقراء لبنان والعرب، وملأت الدنيا، وشغلت الناس.
ترعرع طلال في كنف عسكري من شمسطار البعلبكية مُولَهٍ كأترابه بالتعليم المدرسي على مرمى حجر من سوريا العروبة، مدَداً لمواجهة سطوة "البكوات" ونكبة الحرمان، فعبّ طلال يافعاً مع شباب المنطقة من مناخ ثوّار "جيش الإنقاذ" العائدين من فلسطين، وتشرّب العروبة في مدرسة أنشأها حاتم حيدر في شمسطار لغةً وأدباً وشعراً، ثم صقلها هوية وطنية نصيراً للوحدة العربية أمام جمال عبد الناصر في دمشق برفقة سليم اللوزي وشفيق الحوت، وفي معركة معاداة كميل شمعون؛ عرّاب غزو الأطلسي وحلف بغداد.
امتشق أبو أحمد، رجل العروبة وفلسطين، سيف الإعلام القاطع الذي شحذه صحافياً شاباً في تجارب المهنة المتعدّدة، وانطلق مغواراً في ميدان المعركة لإشباع هاجس "دنيا العرب" (مجلة شارك بتأسيسها في الكويت) في الوصول إلى برّ الأمان.
بنى طلال مدرسة "السفير" صرحاً للتيارات السياسية الوطنية والنخب الفكرية والثقافية العربية، لتعرض في مشغل صناعة الأفكار والآراء والمشاريع مما لديها وما تصبو إليه على قاعدة أدب الحوار، وأمّن لها وصول جريدتها إلى البيوت والمكاتب والناس الطيّبين في القرى والشوارع بهمّة ضبّاط الظل في "مطبخ" الجريدة والمطبعة، منهم ياسر نعمة و"الكويس" محمد مشموشة.
كل التيارات السياسية العربية اليسارية والقومية والوطنية تقارعت وتلاقحت على صفحات "السفير"، وكل المثقفين والأدباء والشعراء اتخذوها منبراً. وقد استقطبت الطلاب والمهنيين وناشطي المجتمع والشباب الطامح إلى الوجود في فكّ الحرف... وبموازاة الخلطات السياسية والفكرية المتنافرة، ظلّ طلال عروبيّاً على ما نشأ عليه.
لم يشكّك أبو أحمد في ناصريته إثر هزيمة 67، بل على العكس، شدّدها بصحبة ياسين الحافظ الذي قلبته الهزيمة من البعث المتمركس إلى الناصرية، ولم يزحزحه السادات عن إيمانه بمصر العروبة القلب النابض لفلسطين.
لجأ إلى إرث عبد الناصر ومريديه في مصر والوطن العربي يعقد الارتباط مع رعيل المرحلة مثل محمد فايق وطارق البشري وإسماعيل صبري عبد الله ومحمد حسنين هيكل... ومع أحمد بن بلّة وقياديي جبهة التحرير وأعلام سوريا والعراق وليبيا والمغرب العربي... وكان يحفظ في ذاكرته أرقام هواتفهم بالعشرات عن ظهر قلب.
لم تحبطه هزائم النظام الرسمي العربي ومرارة فقدان الحلم بالوحدة العربية، فعوّل على البندقية الفلسطينية وعلى الفدائيين مشعلاً لهداية أمة العرب إلى طريق كبرى الطموحات، لكن موت التيارات السياسية والنخب الفكرية والثقافية العربية في خواء الفراغ أصاب منه مقتلاً.
ظلّ يأمل بقدرة العربي القديم على التجدّد في مسار تحرير فلسطين نحو تحرّر الوطن العربي من عبودية الاستعمار وهيمنة المصالح الغربية في التفتيت والنهب، وصدمه خيار السلطة الفلسطينية على حواشي النظام الرسمي العربي وأرباب مصالح "المجتمع الدولي".
وصدمه "العربي الجديد"، مطرقة الديمقراطية الأميركية ومعولها، في هدم الجغرافيا السياسية العربية والإسلامية، لتعميم الخراب فوق رأس الناس وتحت مرقدهم، دعماً لمنظومة الاستبداد الدولي الأكبر في النيل من "أشرار" الاستبداد المحلي الأصغر.
راعه فقدان عروبة مصر وتطييف عروبة بيروت الملحقَة بعرب أميركا و"إسرائيل"، وأنحلَه توديع رفاق دربه من أعمدة "السفير"، كناجي العلي وجوزيف سماحة ومصطفى الحسيني والحي المشلول بلال الحسن... وأحبطه عدم إنجاب أجيال "السفير" ذرّية نخبة استمرارية "على الطريق"، حتى بات أثرها يقتصر على عدد أصابع اليد، منهم إبراهيم الأمين ونصري الصايغ وسعد محيو وفيصل جلول، وربما بعض قليل.
يرحل طلال سلمان في ختام مرحلة صعبة من الزمن، ولا يكلح الزمن الأميركي ومجتمعه الدولي على أمة العرب وحدها، بل يُصيبها من مخاطر تهديد الوجود والبقاء ما يُصيب كوكب الأرض بأحيائه وجماده ومناخه ورمق الحياة عليه، لتسييد حفنة من مصالح برابرة العصر في عالم يتحكّم في فرضه استبداد الرساميل العملاقة وأسهم شركات الخراب ودكتاتورية السوق.
في عالم غابة التوحّش، ليس في منطقتنا أبواق خراب ونقيق ضفادع أكثر من غيرها، فذلك سمة من سمات عصر الضياع والخوف من تحوّلات تقضّ مضاجع معظم سكان المعمورة المهدّدة بالجوع والتصحّر، لكن في منطقتنا مقاومة مسلّحة لم ترقَ إليها منطقة أخرى لمواجهة الاستعمار القديم المتجدّد بليبراليته الجديدة، ويزيدها عظمة أنها تخرق موازين منظومة دولية لا تميل إلى تحرّر عالم الجنوب من الهيمنة والنهب.
تصعيد المقاومة وتقويض بقاء الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ليس حدثاً فلسطينياً معهوداً، ولا تطور محور المقاومة في إيران ولبنان وسوريا والعراق واليمن مجرد موجة إقليمية تنحصر انتصاراتها الحربية والقدرة على الردع في حدود منطقة مقطوعة من شجرة، إنما هي مسار المخاض العسير "على الطريق" لإحياء التحرّر من العبودية المعاصرة في عالم الجنوب.
هذا الأفق الرحب يستدعي تكامل النخب السياسية والفكرية والثقافية والإعلامية في منطقتنا، إلى جانب المقاومة، في البحث وحوار الأفكار والمشاريع والبدائل... لإنجاز تحرّر المنطقة من السحل والتبعية وبناء هوية الانتماء الإنساني إلى الشعوب التوّاقة إلى التحرّر في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
طلال سلمان وأمثاله رحلوا، ولكن لن يغيّبهم الموت... إنما الميْت ميّت الأحياء.