"إسرائيل" ووهم النصر الاستراتيجي!
أي نصر استراتيجي وهذه "الدولة"، التي تدّعي أنها تملك جيشاً لا يُقهر، تطلب الدعم والمساندة والحماية من كل محور الشر في العالم والمنطقة للتصدّي لهجمات جبهة المقاومة، كما حدث في عمليتي الوعد الصادق 1 و2.
في "إسرائيل"، نتيجة التحوّلات الأخيرة التي عصفت بالمنطقة، ولاسيّما بعد الانهيار الدراماتيكي للنظام السوري السابق، وهو ما عدّه البعض ضربة قاتلة لجبهة المقاومة، في كل جبهاتها، إلى جانب توقّف القتال في الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، بالإضافة إلى ما يتم ترويجه بشأن قرب التوصّل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، فإنهم يشعرون، بل يعلنون أنهم حقّقوا نصراً استراتيجياً على كل أعدائهم في الإقليم، وأنه آن الأوان لقِطاف ثمار هذا النصر، من خلال تشكيل ما يُطلقون عليه "الشرق الأوسط الجديد"، والذي بشّر به مجرم الحرب بنيامين نتنياهو وسائر أركان ائتلافه اليميني المتطرّف.
بعيداً عن تصريحات نتنياهو ووزير حربه الأحمق يسرائيل كاتس وغيرهما، والتي تحمل كمّاً هائلاً من غرور العظمة والانفصال عن الواقع، دعونا نُشِرْ إلى ما كتبه إثنان من الصحافيين الإسرائيليين في هذا الجانب مؤخراً، واللذان يعبّران بدورهما، وإن بصورة أقل ضجيجاً، عما يعتمل في صدور معظم الإسرائيليين، على اختلاف انتماءاتهم الحزبية في هذه الأيام من مشاعر.
كتب آفي شيلون، في صحيفة "يديعوت أحرونوت" إن "سقوط سوريا، إلى جانب وقف النار المحفوظ تجاه حزب الله "المهزوم" في الشمال، والشائعات عن صفقة وإن كانت جزئية لتحرير "المخطوفين" في غزة، تضع "إسرائيل"، للمرة الأولى منذ السابع من أكتوبر، في موقف "تفوّق استراتيجي"، والسؤال المطروح الآن هو: ما العمل في ضوء هذا التفوّق الاستراتيجي؟".
في إجابته عن السؤال، يدعو شيلون إلى ترجمة ما سمّاه "الإنجازات العسكرية" إلى تحوّلات سياسية، تبدأ من غزة، من خلال إبدال حكم حماس بجهة فلسطينية أخرى تخضع للرقابة، مع تحريك "مفاوضات السلام" من جديد. وفي لبنان يدعو إلى عدم الاكتفاء باتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله، بل استغلال فقدان الحزب قوّته للتوصل إلى اتفاق سلام مع الحكومة اللبنانية.
أما في سوريا فيطالب بدعوة الجولاني إلى الصلاة في المسجد الأقصى، بحيث يمكن أن يشكّل ذلك، من وجهة نظره، مصالحة مع العالم الإسلامي كله، وليس مع سوريا الجديدة فقط.
في صحيفة "معاريف"، نجد كاتباً آخر هو آفي أشكنازي، كان أكثر شعوراً بالنشوة من شيلون، إذ وصف "إسرائيل" بأنها أصبحت "الشرطي المتشدّد" للشرق الأوسط، وأنها تجبي ثمناً عن كل ضرر يمسّ أمن جنودها و"سكانها".
ويضيف أشكنازي أن هذه الرسالة تتسلّل إلى كل المنطقة، بحيث يفهم لبنان الآن أن "إسرائيل" جدّية في رغبتها في إنفاذ قواعد اتفاق وقف النار. وفي سوريا مكّنت حملة "سهم الباشان" الجيش الإسرائيلي من تدمير نحو 80% من مقدّرات الجيش السوري، في غضون 48 ساعة، وأن الأردن والبحرين والسعودية ومصر ودولاً أخرى باتت تفهم أن الشرق الأوسط يتغيّر ويُعاد تصميمه، وتفهم أن الشرطي الإقليمي الجديد هو "إسرائيل"، مع سلاح الجو المقتدر، ومنظومة استخبارات هي الأقوى في المنطقة.
ما ذُكر أعلاه غيض من فيض مما يُكتب ويُنشر في الصحافة الإسرائيلية، وهو تعبير حقيقي عن موجة من النشوة غير المسبوقة، والتي أصابت معظم الإسرائيليين مؤخراً، وفي المقدّمة منهم قيادات سياسية وحزبية وعسكرية، إلا أنه، في أرض الواقع، لا يبدو أن ما يُكتب ويُنشر، أو ما يصدر عن القادة والأحزاب، يجد له رصيداً حقيقياً على الأرض، ويمكن رؤيته بالعين المجرّدة، او ملاحظة تبعاته وتداعياته على عموم المنطقة، كما يدّعي قادة العدو وأذرعهم الإعلامية، إذ إنه، على الرغم من إصابة محور المقاومة، بجماعاته ودوله، بخسائر تكتيكية ملحوظة، وعلى الرغم من فقدان هذا المحور إحدى أهم ساحاته الحيوية في سوريا، وفي ظل فقدان حزب الله والمقاومة الفلسطينية قادتهما من الصف الأول، فإن المحور ما زال ممسكاً بكثير من خيوط اللعبة في الإقليم، ولديه من الإمكانات العسكرية والبشرية ما يمكّنه من فرض رؤيته وكثير من سياساته على محور الشر المنتشي ببعض الإنجازات المحدودة هنا وهناك.
عبر نظرة واقعية هادئة ومتأنّية، بعيداً عن تهويل وسائل الإعلام العبرية والأجنبية المنحازة، ونظيرتها العربية "المحايدة "، يمكن لنا ان نلاحظ كثيراً من المؤشرات التي تدلّل على ان معظم ما يدّعيه العدو وأجهزة إعلامه هو أقرب إلى أن يكون أضغاث أحلام، ولا يتعدّى كونه بروباغندا سوداء تهدف إلى التأثير في الرأي العام، عربياً وإسلامياً، بصورة خاصة، وفي الرأي العام العالمي، بصورة عامة، ومحاولة لتحقيق إنجازات ليس لها رصيد حقيقي على الأرض وفي الميدان.
فجبهة المقاومة الواسعة والصلبة لم تُهزَم ولم تسقط ولم تتفكّك، وهي، وإن فقدت بعض أوراقها المهمة، وتحديداً بعد الذي حدث في سوريا، والذي لا نقلّل من شأنه، فإن خسارتها تُعَدّ تكتيكية ومحدودة قياساً بحجم إنجازاتها التي حققتها خلال الأعوام الماضية، وليس لدينا أدنى شك في أن هذه الجبهة المتماسكة والرصينة ستتمكّن في وقت قريب من تعويض تلك الخسارة.
فيما يتعلّق بوحدة الساحات، فهي ما زالت قائمة وفعّالة، وهي على الرغم من وقف العمليات القتالية في الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، وفقدان جزء من طريق التواصل الجغرافي بين بعض أضلاع جبهة المقاومة، فإنها ما زالت تقوم بالدور نفسه الذي قامت به منذ بدء معركة الإسناد لقطاع غزة، ولا يبدو أنها ستتوقّف قبل وقف العدوان بصورة كاملة. وهذا الأمر بدا واضحا من خلال العمليات الأخيرة التي نفّذتها جبهتا اليمن والعراق ضد أهداف عسكرية في العمق الإسرائيلي خلال الأيام الأخيرة.
أما حزب الله، الذي تدّعي "إسرائيل" أنه هُزم ورُدع، فهو ما زال قوياً ومتماسكاً، كما تشير أجهزة استخبارات عالمية متعدّدة، وما يُشاع عن انكفاءه داخلية وخارجية غير صحيح، ولا يعدو عن كونه محاولة فاشلة للتأثير في حاضنته الشعبية، التي أثبتت من جديد أنها موحّدة وثابتة خلف توجّهات الحزب وخياراته، وجاهزة لدفع الثمن من أجل ذلك.
حتى سوريا نفسها، التي يعتقد العدو أنه سلخها عن محيطها المقاوم، وأنه دمّر قدراتها العسكرية بصورة شبه كاملة، فهي يمكن أن تتحوّل إلى جبهة مواجهة مباشرة مع العدو الذي يحتل أرضها، ويمكن أن تشهد خلال المرحلة المقبلة بروز جماعات مقاومة، تكون أكثر حيوية ومرونة من النظام السابق، الذي عانى الكثير من المشاكل والتعقيدات، التي منعته من الرد على الاعتداءات الإسرائيلية.
في فلسطين، التي تُعَدّ خط المواجهة الأول مع "دولة" العدو، ما زالت المقاومة في الضفة وغزة مستمرة، وعلى الرغم من كل ما جرى من عدوان واسع، ومن جرائم إبادة جماعية منقطعة النظير، ومن الخسائر الهائلة في الأرواح والبنى التحتية، فإنها ما زالت في كامل لياقتها القتالية، وعنفوانها الثوري، ويكفي أن نُحصي عدد القتلى من الجنود الصهاينة في مخيم جباليا الصغير والمدمّر، خلال الشهرين الأخيرين، أو التصدّي البطولي لقوات الاحتلال في جنين وطوباس وطولكرم ونابلس، لنعرف حجم القوة والبأس اللذين ما زالت تتمتّع بهما تلك المقاومة، ومدى رغبتها في مواصلة طريقها حتى تحقيق أهدافها المحقّة والمشروعة.
في المقلب الآخر، لننظر بعجالة إلى الأوضاع في "الدولة" العبرية، التي تدّعي تحقيق "النصر الاستراتيجي" على أعدائها، فهي تعيش على وقع أزمات متلاحقة، داخلياً وخارجياً، سياسياً واقتصادياً، بالإضافة إلى حالة من التفكّك الاجتماعي غير المسبوق، وهجرة العقول ورؤوس الأموال، والترهّل والانحطاط في صفوف الجيش، الذي يحاول أن يستعيض عن فشله وإخفاقه في الميدان بارتكاب المجازر والمذابح بحق المدنيين العزل.
فأي نصر استراتيجي ورئيس وزراء هذه "الدولة" ووزير حربه السابق مطلوبان للمحكمة الجنائية بتهمة ارتكاب جرائم حرب!
أي نصر استراتيجي وهذه "الدولة"، التي تدّعي أنها تملك جيشاً لا يُقهر، تطلب الدعم والمساندة والحماية من كل محور الشر في العالم والمنطقة للتصدّي لهجمات جبهة المقاومة، كما حدث في عمليتي الوعد الصادق 1 و2.
أي نصر استراتيجي وكل ما تملكه هذه "الدولة" من تكنولوجيا حديثة، ومنظومات دفاع جوي متطوّرة، تفشل في التصدّي لطائرة مسيّرة واحدة جاءت من مسافة 2000 كلم.
أي نصر استراتيجي وفِرَق العدو النخبوية تتعرّض لنكبات ونكسات في غزة المدّمرة والمحاصرة، وتفشل في تحقيق أي إنجاز لافت سوى إحداث مزيد من الدمار والخراب وقتل المدنيين.
أي نصر استراتيجي والمستوطنون الصهاينة يخشون العودة إلى مستعمراتهم في شمالي فلسطين المحتلة، على رغم وقف القتال مع حزب الله، وإلى تلك المحاذية لقطاع غزة، على رغم ادعاء جيشهم وحكومتهم القضاء على المقاومة وتفكيك كتائبها وسراياها.
في كل حال، وبعيداً عما يُقال في وسائل الإعلام، أو ما يصدر عن المسؤولين السياسيين والعسكريين في "دولة" الاحتلال، فإن الواقع يقول إن كل ما جرى من أحداث في المنطقة، وإن كانت في بعضها مفاجئة وصادمة، لا يغيّر في الأمر شيئاً، فهي أحداث ستمضي مع مرور الأيام كما مضى غيرها، ولن تشكّل انعطافة تاريخية، كما يتوقع البعض، ولن تؤدي إلى دخول الجميع تحت الوصاية الإسرائيلية - الأميركية، فهذه الوصاية سقطت تحت أقدام المقاتلين في صبيحة السابع من تشرين أول/أكتوبر في غلاف غزة، وسقطت تحت أقدام المقاتلين في مارون الراس وبنت جبيل وعديسة والخيام.
وهذه الوصاية انهارت إلى الأبد، ولن تعود من جديد مهما كانت الأثمان، لأنها لو عادت فإن المنطقة، بشعوبها وأنظمتها، ستدخل في نفق مظلم، يضع مبادئه واحكامه شذّاذُ الأفاق والقتلة والمجرمون، ويحكم فيه آكلو الأكباد وقاطعو الرؤوس.