حكاية "القسام": من عقيدة الصدمة إلى صدمة العقيدة
تروي قصة الشهيد نضال فرحات، أحد مصنعي أُولى نُسخ صواريخ القسام، المسارَ والجهادَ لكثيرين من رجال المقاومة وقادتها.
عشرون عاماً مرت على إطلاق أول صاروخ قسام في اتجاه مستوطنة سديروت في غلاف غزة، في السادس والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2001. كثيرون منا، ممن يجلسون في المنازل الآن، عند خطوط النار، أو ممن استُشهدوا في العدوان الأخير على غزة، لم يساعدهم العمر في تلك السنوات على معرفة أهمية هذا الحدث. يصعب أن نجد سلاحاً غير طبيعة الحرب بين غزة والاحتلال (كجزءٍ من الحرب الكبرى معه)، مثل سلاح الصواريخ، حتى أصبح معظم جهد الاحتلال منصباً على تدمير البنيتين التحتيتين، المادية والبشرية، المتصلتين بصناعة هذه الصواريخ. فتطور هذه الصواريخ يشي بنتيجة لا تُرضي الاحتلال.
سنحاول، في هذا المقال، عرض بعض من قصة القسام، منذ بدأ استخامه كسلاح صُنع في المنزل (DIY)، وصولاً إلى أن يصبح ورثته أحد أهم مكونات الردع الاستراتيجي في صراع المقاومة في غزة مع الاحتلال.
القسام: بداية الحكاية
ذكر أحد الأصدقاء الغزاويين مرةً أن السلاح الثقيل في الانتفاضة الثانية، كان شحيحاً جداً، إلى درجة أن المقاومين الغزاويين أطلقوا على مدفع الهاون عندما وصل إلى غزة اسم "صاروخ الهاون"، على الرغم من أن تحرير غزة، في عام 2005، منح مختلف فصائل المقاومة الفلسطينية حريةً أكبر في العمل، وفي التنظيم والتصنيع، إلا أن الحصار شكل أحد العوامل الأساسية التي عوقت عملية تطوير التقنيات والأساليب الحربية. وهذا الحصار لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا.
تروي قصة الشهيد نضال فرحات، أحد مصنعي أُولى نُسخ صواريخ القسام، المسارَ والجهادَ لكثيرين من رجال المقاومة وقادتها. استُشهد فرحات في عام 2003، في عملية اغتيال في أثناء تطويره، مع مجموعة من المجاهدين، طائرةَ "أبابيل 1: المسيرة في تلك الفترة المبكرة من صراع التكنولوجيا مع الاحتلال. لا يمكننا التعليق على التطور الذي وصلت إليه فصائل المقاومة في غزة، تقنياً وعملياتياً، من دون تعداد عدد الشهداء المهول من القادة والمصممين، حتى ليبدو المستوى الحالي شبه إعجازي نظراً إلى عدد الذين استُشهدوا منهم، إذ كانوا دائماً في رأس قائمة اغتيالات الاحتلال وعملائه المحليين.
كانت صواريخ القسام الأولى عبارة عن أنابيب معدنية محشوة بوقود، مكونه السكر وبعض الأسمدة الزراعية. ولتسهيل صناعتها حتى الحد الأقصى، كانت زعانف التوجيه منصوبة بصورة مستقيمة على ذيل الصاروخ، فلم يكن هدفها جعل الصاروخ يدور بعد إطلاقه لتخفيف مقاومته للهواء، وتثبيت مساره، وبالتالي زيادة دقته. كان ذلك صعباً جداً بالمقارنة مع التقنيات المتوافرة. رأس الصاروخ المتفجر لم يتجاوز الكيلوغرامات القليلة، وكان مزيجاً من الكرات الحديدية المانعة للاحتكاك، والتي يمكن إيجادها في أي محور عجلة أي سيارة، ومن المتفجرات المصنعة محلياً بالطريقة السابقة، أو عبر إعادة استخدام الذخائر التي كان الاحتلال يُلقيها على غزة. بقيت "إعادة تدوير" المتفجرات بغية إعادة شحنها نحو المصدر، واحدةً من الطرائق الأساسية التي استحصلت عبرها المقاومة على المواد المتفجرة العالية الجودة حتى يومنا هذا، كما تعلن.
ساهم التحرير في عام 2005 في منح المقاومة في غزة هامشاً كانت تحلم به للعمل بحرية. وبقدراتها الذاتية في البداية، قامت بإطلاق عملية تطوير شامل للصواريخ، مستفيدةً من المواد والخبرات المحلية. كان التطوير يتم عبر عملية الخطأ والتجريب. من مساوئ أسلحة كهذه، أنه يتم تجهيزها في ورشات غير مجهزة ولا آمنة، نظراً إلى غياب الإمكانات في البداية، الأمر الذي أدى إلى ارتقاء عدد من الشهداء، أو جرح بعض المقاومين، خلال هذه العملية، بسبب انفجار المواد واختلاطها وإطلاقها غازات سامة. كانت المقاومة مستعدة لتحمل هذه التكلفة المضافة البسيطة بالمقارنة مع تكلفة الحرب، والتعرض للقصف من دون معادلة ردع تقيها شر قصف الاحتلال.
في كل عام أو عامين، كان يخرج إلى العلن نموذج جديد من صواريخ القسام. في عام 2002 ظهر صاروخ القسام 2، ووصل مداه إلى 12 كلم في حده الأقصى. وفي عام 2005، وصل القسام إلى مدى 15ـ17 كيلومتراً. في عام 2006، ظهر صاروخ "قدس 3" المطور عن صاروخ "غراد" الروسي، والمعروف لدى أغلبية الناس باسم "كاتيوشا"، ومنح هذا الصاروخ المقاومة القدرة على ضرب مدينتي عسقلان وأسدود المحتلتين، ووسع دائرة الخطر لتشمل أيضاً مستعمرتي "نتيفوت" و"أوفاكيم". في عام 2009، بدأت المعادلة تتغير، بحيث تعرضت مدينة بئر السبع المحتلة للقصف، وهي تبعد بين 35 و40 كلم عن حدود غزة المحتلة، ومن المرجح أن الصواريخ المستخدَمة كانت حربية مهربة إلى غزة. فالصواريخ الحربية، التي تُصنع في مصانع كبيرة مجهزة، تكون نسبة الخطأ في هندستها أقل كثيراً، الأمر الذي يمنحها كفاءة عملية أعلى.
في عام 2012، خلال عدوان "عمود السحاب"، تغيرت المعادلة من جديد، إذ استهدفت المقاومة للمرة الأولى "تل أبيب"، عبر استخدام صواريخ فجر 5 الإيرانية، وصواريخ أم-75 وجي-80 (وسُمي باسم القيادي الشهيد أحمد الجعبري) المصنعة محلياً. وذكر المسؤولون في محور المقاومة أهمية نقل الخبرات، والذي تم بين مختلف أقطاب المحور، في تعزيز جودة الصواريخ المصنعة محلياً في غزة ومداها. ويبقى الجهد الأساس للمقاومة الفلسطينية، في مختلف فصائلها. لم يتغير فقط مدى الصواريخ. فمع تكبير حجمها، زاد حجم الرأس المتفجر، من عدة كيلوغرامات في صواريخ القسام الأولى، إلى عشرات الكيلوغرامات في صواريخ فجر وأم 75.
بحسب تقرير "الشاباك"، عام 2010، "نجحت إيران في إدخال 1000 قذيفة هاون ومئات الصواريخ القصيرة المدى لقطاع غزة، على مدى العام". استمر المسار التصاعدي من عام 2014 إلى عملية "سيف القدس"، وكان المشترك أن ضرب العمق الصهيوني أصبح متكرراً أكثر؛ أي أن عدد الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى استمر في الزيادة. ووُلدت بعدها صواريخ "الإي -"120 (تيمناً بالقائد في المقاومة رائد العطار)، وصاروخ "إي - 250" ذو المدى الأبعد حتى الآن، والذي سُمي تيمناً بالشهيد المهندس يحيى عياش. شهداء المقاومة، الذين ساهموا في رسم هذا الدرب، كانوا حاضرين دوماً في التسميات. كما كشفت المقاومة صواريخ "أس أتش-85" التي استُخدمت في "سيف القدس" في ضرب كل من "تل أبيب" ومطار "بن غوريون"، معطلةً الملاحة فيه.
باعتراف العدو، تحسنت الدقة أيضاً في عملية "سيف القدس" الأخيرة، إذ إن نحو 50 في المئة من الصواريخ، التي جابت سماء فلسطين المحتلة، وصلت إلى مستوطنات العدو. يُعَد هذا ارتفاعاً من 22% في عام 2012، و%18 في عام 2014. إذاً، تسقط صواريخ أقل في المناطق الفارغة.
القبة (غير) الحديدية
تناولنا، في مقال سابق، نُشِر خلال "سيف القدس" فعالية "القبة الحديدية" الحقيقية ، ليس فقط من الناحية الرقمية، عبر عرض نسبة الاعتراض الناجحة، بل من ناحية نجاعة استخدام سلاح كهذا في حرب واسعة، أو من ناحية مقارنة التكلفة العملية للاعتراض. لا داعي لتكرار هذه التفاصيل، لكن الجديد هنا، أنه بعد أن انجلى غبار الحرب، أخذت التفاصيل تتكشف عن الأساليب التي اعتمدتها المقاومة لتضرب مستوطنات العدو ومراكزه العسكرية.
في تقرير نشره موقع "ذي كونفرسايشن"، للباحث الأميركي المتخصص بالشؤون العسكرية، مايكل ج. أرمسترونغ، يتم عرض بعض من هذه التفاصيل. يقول الكاتب أن المقاومة الفلسطينية قامت بإطلاق 137 صاروخاً خلال 5 دقائق لا غير، ناقلاً المعلومات عن الإعلام الإسرائيلي. ويكمل الكاتب قائلاً إنه على الرغم من أن هذا الرقم لا يزال أقل من قدرات بطاريات المدفعية للجيوش النظامية، فإنه تحسنَ كثيراً عن الوتيرة السابقة. وسمحت هذه الوتيرة للمقاومة بإغراق بطاريات القبة الحديدية، ليس فقط من ناحية عدد الصواريخ، بل من ناحية قدرة راداراتها على تحليل الأهداف والتعامل معها. ففي حادثة من الحوادث، تعطلت البطارية، بحسب الإعلام الإسرائيلي.
يكمل الكاتب عارضاً احتمال تعرض بطاريات القبة نفسها للنيران، فيذكر أن وابلاً من صواريخ المقاومة حاول فعلاً القيام بذلك، لكن الصواريخ لم تكن دقيقة بما فيه الكفاية للقيام بالمهمة. وهنا، بجب أن نذكر، من خارج سياق مقال أرمسترونغ، أن هنالك صواريخَ وطائرات مسيرة تُصمم وتصنع لهذا الهدف بالتحديد، وهي تقوم بركوب موجة الرادار وتصحيح مسارها بالتدريج، راكبة موجاته نفسها، والتي لا يستطيع الرادار لا الرصد ولا الاشتباك من دونها، لتصل إليه وتدمره. صواريخ كهذه توجد بحوزة الجمهورية الإسلامية في إيران، بينما ما زال وجودها عند سائر الأطراف في محور المقاومة مجهولاً حتى هذه اللحظة.
من جهة أخرى، يتحدث أرمسترونغ عن دراسة قام بها في عام 2018، ويقول فيها إن الضربات الجوية، خلال العمليات السابقة، لم تنجح في تقليص وتيرة الصواريخ التي أُطلقت وعددها، "وحده الهجوم البري قام بذلك"، في إشارة إلى أن السيناريو نفسه تكرر في عملية "سيف القدس". ومن المعلوم أن قوات الاحتلال لم تبادر إلى الهجوم البري في الحرب الأخيرة، وهي مدركة ما ذُكر سابقاً، إلا أن التكلفة العالية حدت، بصورة كبيرة، جرأةَ الاحتلال ومبادرته إلى شن عمليات كهذه، نظراً إلى التجارب السابقة.
في دراسة أخرى من عام 2014، تنبأ الكاتب بنقطة الضعف هذه، التي قد تعاني جراءها أنظمة، كالقبة الحديدية، هذا التكتيكَ بالإغراق. وأظهرت أن "صواريخ الاعتراض العالية الأداء يمكن أن تبدو "هشة". فبمجرد تجاوز سعتها، يرتفع الضرر على الأرض". وهنا، ننتقل إلى "الفائدة" الفعلية للقبة الحديدية وخطورة الاعتماد عليها في إطار الظروف السياسية التي تحيط بالكيان، والتي تشي بأنه سيكون في مأزق في الحرب المقبلة.
عقيدة الصدمة، أم صدمة العقيدة؟
إذا نظرنا إلى النقطة التي ابتدأ منها الصراع الفلسطيني مع الاحتلال، ضمن إطار الصراع العربي الأكبر، ونوعية السلاح المستخدَم على مر السنوات، فسنجد ما يثير الاهتمام. صحيح أن المقاومة الفلسطينية، في الثمانينيات، كانت تستخدم الصواريخ لقصف المستوطنات الصهيونية من جنوبي لبنان، إلا أن استخدامها حالياً أصبح "معيارياً"، بغض النظر عن أن صناعة معظمها أصبحت محلية، تُستخدم فيها الأنابيب وذخائر العدو غير المنفجرة، لكن استخدامها نفسه، أصبح يخدم غاياتٍ سياسية أوسع، كما حدث في عملية "سيف القدس" الأخيرة، والتي ظهرت فيها المقاومة الفلسطينية في غزة كالمتحدث الحصري باسم الشعب الفلسطيني، مُخْرِسةً كل الأصوات المهادنة أو العميلة.
إن "تدجين" المجتمعات العربية، بعد نزع أنيابها، يُعَد واحداً من أهم أهداف المشروع الصهيوني غير المنتصر في بلادنا، وهنا تأتي الصواريخ لتذكرنا، من جهة، بأن صراعنا، قبل أن يكون عسكريأً مادياً، هو صراع إرادات وروح. ماذا يعني ذلك؟
يعني أن الكيان الصهيوني يعلم بأنه لن يستطيع هزيمة شعوب المنطقة في ضربة واحدة. لذلك، هو يقوم بفصل الجبهات وتحييدها. يمتد هذا الموضوع ليصل إلى المجتمع الفلسطيني نفسه؛ أي ينفصل ابن الضفة عن القدس المحتلة، وينفصل كلاهما عن الداخل المحتل، أو عن غزة المحاصرة. في أثناء كتابة هذا المقال، مرت أمامي دراسات لا تُعَد ولا تُحْصى، تقوم بها الجمعيات "غير" الحكومية الغربية، وتستطلع رأي الشعب الفلسطيني بشأن عمليات إطلاق الصواريخ هذه. هذه المحاولات ليست بريئة بالتأكيد، وتدخل ضمن إطار عمل أي مستعمرٍ يريد ترسيخ حكمه. لكن الثابت في هذه الدراسات، هو أن مدى التأييد لاستخدام الصواريخ في الشارع الفلسطيني مرتبط، بصورة مباشرة، بقدرة هذه الصواريخ على إحداث ضرر، ليس فقط في بنية الاحتلال، مادياً وبشرياً، بل في كسر صورة المهيمن الكلي القدرة، والتي يريد زرعها في وعي الشعب المحتل.
لعل الفكرة التي أرعبت الاحتلال الصهيوني، بقدر ما أرعبته فكرة أن تكون المقاومة الفلسطينية في غزة هي المتحدثة باسم الشعب الفلسطيني، كانت الصواريخ التي انطلقت من كل من سوريا ولبنان في أيام الحرب الأخيرة، والتي كانت تزيد بالتدريج. عبر كل المعطيات الرقمية، لن تستطيع القبة الحديدية صد القسم الأكبر من الصواريخ التي تُطلَق على منشآت الكيان الصهيوني، وهو يعلم ذلك جيداً. لذلك، يقوم بالتركيز على فكرة العملية الصادمة والسريعة في حالة تمدد الحرب. لا عدد الصواريخ المعترضة يكفي ولا عدد الكتائب. وهنا، تبرز فكرة صراع الإرادات من جديد، بحيث يظهر الدور النفسي للقبة الحديدية في منح المستوطنين أماناً موقتاً وافتراضياً، وفي المحافظة على فكرة المستعمر الأبيض، الذي لن تخدش "درعه اللامعة" سهام من يستعمر.
إن الفرق في الخسائر المادية، في المعنى الرقمي الجامد بيننا وبينهم، كان لمصلحة الاحتلال بالتأكيد سابقاً، ولن يجادل عاقل في هذا المعطى، لكن الصراع أكبر من ذلك. أعتقد أنه يمكننا رؤية الصراع في الصورة الأوضح في خطاب القائد في المقاومة الفلسطينية، يحيى السنوار، وكيف تعامل الإعلام الصهيوني معه، وكيف تحول مجتمع بأسره إلى مجموعة من الأطفال الحانقين على الجرأة والكبرياء اللتين تحدث بهما السنوار "كأنه المنتصر"، وفق تعبير هذا الإعلام. لا المقاومة ولا شعبها في غزة مجانين، كما يحلو للإعلام الغربي تصويرهم، بل هم يعرفون من يحتل أرضهم، وهم يعون هشاشة الكيان من هذه الناحية، كما صناع القرار الصهاينة فيه، والذين يتصرفون مع أصغر تغير في موازين القوى كتهديد وجودي.
أهل غزة ومقاومتها يدركون أن الصراع قد لا يُحسَم في السنوات المقبلة، لكنهم كأهل هذه المنطقة، الذين يحاربون من أجل قضيتهم ومستقبل أطفالهم، يعلمون بأن المنتصر في هذه الحرب سيكون صاحب النفَس الأطول.