حصار "تل أبيب" وسيناريوهات الفصل الأخير من الحرب
الحروب القادمة مع الكيان الإسرائيلي ستختلف تماماً عن سابقاتها، وعلى المحور بشكل عام إعادة العدو الإسرائيلي إلى التعامل مع نوعية الحروب السابقة، وذلك بتنفيذ أقوى الضربات وأدقّها.
إنه فعلاً زمن كشف الحقائق، ترمي ببصرك فينبعث إليك من كل جهة وركن وطريق الجبن والخذلان والعار في أمة تملك المال والمقدرات ولكن الأبطال فيها قليل، تشاهد أسوأ مأزوم في التاريخ الحديث من يرتكب الإبادة الجماعية نتنياهو وهو يوجّه خطابه إلى زعامات العرب-وحاشا لله أن يكونوا زعماء-قائلاً (عليكم أن تلتزموا) فيلتزم الجميع ويمرحون ويرقصون ويتآمرون.
وأمام التعنّت الأميركي الواضح والدعم العسكري والسياسي اللامحدود وفي ظل أسوأ مرحلة تاريخية للأنظمة العربية، كشفت مدى الانجراف التام إلى البيت الأبيض، وفي ظل إبادة جماعية ومجازر وحشية تكشف للجميع مدى القسوة والجرم الصهيونيين، يرالفع اليمن من عملياته وبنك أهدافه وهو يدرك تماماً أن المرحلة المقبلة ستكون صعبة للغاية على العدو وأدواته.
إنه الحصار الاقتصادي على الكيان الذي سيغيّر فعلاً من معادلات الحرب، وسيدفع بقوة نحو التصعيد وسيفرز الجميع معسكرين لا ثالث لهما: معسكر غزة واليمن والعراق ولبنان، ومعسكر واشنطن ولندن و "إسرائيل" وأدواته في المنطقة تحديداً.
إن المرحلة الرابعة التي سيقدم عليها الكيان، خاصة الجزء المتعلق بالتصعيد في رفح، سيلقي بثقله على دول عربية وغير عربية وسيضغط في اتجاه كبير إلى الأمام لكشف خفايا الأمور وخفايا القصور، وسيقلب الطاولة على كيان الاحتلال وحلفائه.
والجدير بالذكر هنا، ووفقاً لمعطيات عسكرية مهمة، يقدم اليمن على معركة ثقيلة يؤمن بوجوب الدخول فيها بكل جرأة واستعداد قد تجعل المنطقة برمّتها على صفيح ساخن؛ فاليمن وعمّا قريب كما أقرأ وأشاهد من عاصمة القرار الحقيقية صنعاء سيعلن حظر التجوال لبعض الشركات في أي منطقة قريبة أو يصل إليها السلاح اليمني وهذا الخيار قد بدأ من تحت الطاولة، وسيظهر للعلن عما قريب.
إن إعلان أسماء بعض الشركات المتورطة في دعم الكيان، ودخول مرحلة الاستهداف بشكل مباشر لكل السفن التابعة لهذه الشركات قد يفجر حرباً مختلطة، وسيعيد تشكيل أفق الصراع وسيلتفت نتنياهو جيداً إلى ما سيحدث، لأنه وفيما يبدو أنه لا يأبه لا لشعبه ولا لأميركا وأوروبا ويريدها حرباً إقليمية، ومع الأسف، يبدو أنها ستكون.
نعم، هو اليمن يستعد لخوض غمار حرب كبرى، خاصة أنها تأتي بخلاف قناعات واشنطن التي تصرّح برغبتها عدم توسعة الحرب، لكنها في المقابل، أمام ثور هائج لن يبرح موقعه إلا بعد تفجير حقل الألغام في الجميع.
لقد اتخذت قيادة اليمن قرارها، وتعدّ جيداً لمنع مرور السفن من البحرين الأحمر والعربي وخليج عدن وباب المندب، وستغرِق صنعاء سفناً وتحرق أخرى وستلقي بسلاحها وخبراتها وقدراتها للمواجهة. وفي المقابل، يستعد الجيش اليمني وبشكل غير مسبوق لمواجهة معسكر "تل أبيب" في المنطقة، والتي حتماً سيدفعها هذا التصعيد إلى الخروج والمواجهة المباشرة في حال نجح الضغط الأميركي عليها.
لقد اتخذ قائد اليمن السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي قراره وقال لشعبه إن مراحل التصعيد لم تبدأ بعد، وعلى اليمن أن يستعد لمراحل قادمة وبنسخة خامسة وسادسة، وهو قائد يستند كما يقول بعد الله إلى أدمغة يمنية خبرت الحروب جيداً، وتستعد للقفز إلى خوض غمار حرب البحار التي نجح اليمن فيها مؤخراً.
ولتكتمل الصورة وبالذهاب الى مركز الصراع وثقله، لا يمكن إغفال دور حماس والجهاد وبقية الفصائل التي أدارت المعركة بفعالية عجيبة وعالية أمام أحدث أسلحة وبجوار دول عربية لا ترغب في بقائها، وتطمر خنادق حدودها بالرمل والماء، ومع ذلك انتصرت المقاومة حتى الآن، وهي تدرك تماماً أن حرب استنزاف العدو مرهقة جداً وقد تتخذها أسلوباً في حال تم اقتحام رفح، لكنه سيكون استنزافاً كبيراً ومؤلماً وصادماً للعدو و"جيشه"، إذ تأقلمت المقاومة تكتيكياً على الأرض وهي تراهن على استنزاف العدو أكثر.
وفي قراءة للمشهد العام، يلحظ الجميع خط المفاوضات، كون ما يجري الآن في رفح هو التفاوض بالنار وللمرحلة الأخيرة، والأميركي ومعه العالم لا يستطيع الاستمرار في الحرب في ظل مناخ صعب يتعاظم يوماً بعد آخر، كتحرك الطلاب وأهم من كل ذلك وضعية بايدن.
أما استراتيجياً، فالواقع يقول إن المنطقة متجهة إلى خيارين ومسارين، الحرب وتوسعتها أو أن يذهب الجميع إلى اتفاقات قد تكون طويلة الأمد، وبالتالي العودة إلى استراتيجية الحصار والحروب الناعمة الطويلة والمتنوعة.
وفي قراءة لمختلف جوانب ما يجري، لا يمكن القفز فوق واقع "إسرائيل" الداخلي التي هزم "جيشها" نفسياً في السابع من أكتوبر، وكانت غارقة في الخلافات الحادة داخلياً، وتقول معطيات كهذه إن أي حرب كبرى قد تضع الكيان على سكة الزوال، وهذا يراه آخرون بعيد المدى كون الانحياز الأميركي التام والغربي بشكل عام قد ألقى بظلاله على بنية العدو، فضلاً عن سقوط ورقة العظمة الأميركية في البحر الأحمر، والذي مثل صفعة مدروسة لحلفاء واشنطن في المنطقة.
وأمام كل هذه المؤشرات والمعطيات الواضحة، من المهم أن يستغل اليمن وكل الدول الحرة الجرأة في اتخاذ القرار والتنفيذ، وأن تدفع بكل قوتها لاتخاذ قرارات جريئة تحرر الكثير من الدول والشعوب، وتنتصر لعقود من الهيمنة، وفيما يبدو أن اليمن سيكون قائد هذا التغيير الإقليمي الواضح ومعه كل الذين دخلوا المعركة دفاعاً عن الدماء والحرمات.
ولا يمكن في أي حال من الأحوال تجاهل عمليات حزب الله الدقيقة، والأشد مضاضة والتي تشعل النار في صدر نتنياهو ويضطر إلى إخفائها، ولكن هذا الألم الكبير يظهر حتماً في خلفية الدوافع لاقتحام رفح وأخذ بطاقة ثمن الحرب من دول عربية وغربية مقابل سرعة الانقضاض على رفح والتفرغ التام لجنوب لبنان، خاصة أن الإسرائيلي بدأ يتحمّل الخسائر وبدأ معارك من نوع جديد، ويكسب-إن صح التعبير-المناعة وبلع الألم والاستمرار في تنفيذ المخططات ولو دفع الأثمان الكبرى التي كان من المحال أن يدفعها سابقاً.
وفي المقابل، وبعد منح الكيان الصهيوني أيضاً الوقت والمال وتأهيله لخوض غمار الحروب الطويلة، تعقد الشعوب العربية وكل حر في العالم الأمل على حزب الله واليمن فهما الساعدان القويان، ومن يجب أن يعيد صياغة مفهوم الصراع وطبيعته، ويطور وبقية الأحرار من وسائلهم العسكرية التي تكسر العظم وتعيد إلى العقلية الإسرائيلية أبجديات الصراع، وأن يستعدوا لمعارك وحروب لا تتأثر كثيراً بالحرب النفسية ولا الضغوطات الشعبية ولا العلاقات الدولية.
إن الحروب القادمة مع هذا الكيان ستختلف تماماً عن سابقاتها، وعلى المحور بشكل عام إعادة العدو الإسرائيلي إلى التعامل مع نوعية الحروب السابقة، وذلك بتنفيذ أقوى الضربات وأدقّها والتي من المؤكد أنها ستؤثر بشكل كبير، وأن تضغط على نتنياهو ومن يقف خلفه، بأن التعوّد على الحروب طويلة الأمد ومحاولة تدريب الجيش على حرب من هذا النوع سيكونان مكلفين للغاية.
وخلاصة القول إن المعركة القادمة ستكون مصيرية فعلاً، وقد تكون متوسطة فلا هي طويلة الأمد وتمتد لسنوات ولا هي خاطفة، ولكنها ستكون حرباً ضارية تمس باقتصاد الكيان الذي يعتقد أن دخوله رفح سيكون هادئاً كما دخل بعض مناطق غزة، وهو هذه المرة أخطأ فعلاً أمام العقلية اليمنية والشجاعة العراقية والاستراتيجية العسكرية المتقدمة لحزب الله، وعلى كل هؤلاء استغلال الأشهر الستة المقبلة في رفع مستوى التصعيد، والدخول في معركة كيّ العظم استناداً إلى المثل الذي يقول آخر الدواء الكيّ.