ثورة 23 يوليو بعد 72 عاماً: من الانقلاب إلى الثورة.. إنجازات وإخفاقات
ثورة 23 يوليو، بمرور72 عاماً، تظل واحدة من أكثر اللحظات الحاسمة في تاريخ مصر الحديث.. هذه الثورة لم تكُن مجرد حدث سياسي، بل كانت حلم أمة تسعى للتغيير والعدالة والتحرر.
في صبيحة الثالث والعشرين من تموز/ يوليو عام 1952، استيقظ الشعب المصري على صوت الأمل والتغيير. صوت مندوب القيادة، يلقي بياناً عبر أثير الإذاعة المصرية، معلناً نهاية حقبة من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وبداية مرحلة جديدة. هذا الحدث الذي استغرق دقيقتين ونصف الدقيقة فقط لتلاوته، كان نقطة تحوّل تاريخية غيَّرت المسار السياسي والاجتماعي والاقتصادي لمصر. اللواء أركان حرب محمد نجيب، ببيانه القوي، لخّص حلم أمة بأكملها في جملة واحدة: "لقد اجتازت مصر فترة عصيبة، والآن نحن على أعتاب فجر جديد".
من الانقلاب المحدود إلى الثورة الشاملة
ظل التباين واضحاً في رؤية التحرك العسكري: حركة مباركة تصحيحية، كما ذكر قادته حينها، وبين من يراه انقلاباً. ويقال إن الدكتور طه حسين هو من دشَّن لفظ "ثورة مجيدة "فأصبح الاسم المعتمد، وكان ذلك اعتماداً على التأييد الشعبي الواسع الذي لاقته، فأصبحت "ثورة 23 يوليو"، لكنها كانت ولا تزال محط جدل ونقاشات بين المفكرين والسياسيين المصريين والعرب حول طبيعتها وأهدافها ونتائجها.
لتحديد ما إذا كانت حركة 23 يوليو ثورة أم انقلاباً عسكرياً، يجب أولاً فهم الفرق بين المصطلحين.. الثورة هي حركة جماهيرية واسعة تهدف إلى تغيير جذري في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة.. أما الانقلاب العسكري، فهو استيلاء مفاجئ وغير قانوني على السلطة بواسطة القوات المسلحة.
بدأت حركة 23 يوليو كانقلاب عسكري نفّذته مجموعة من الضباط الأحرار داخل الجيش المصري، استهدفت الحركة إطاحة الملك فاروق الأول وإنهاء الملكية الدستورية الفاسدة.. لم يكُن هناك دعم جماهيري واسع في البداية، بل كانت حركة نخبوية داخل الجيش.
مع نجاح الضباط الأحرار في الاستيلاء على السلطة، بدأت الحركة تتخذ طابعاً ثورياً. تبنّت القيادة الجديدة أهدافاً إصلاحية تتعلق بإعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية وإنهاء الاستعمار والنفوذ الأجنبي. تحولت بذلك من حركة عسكرية محدودة إلى ثورة تسعى لتغيير شامل في مختلف جوانب الحياة في مصر.
عند مقارنة ثورة 23 يوليو بحركات أخرى مشابهة، مثل ثورة يوليو 1958 في العراق، نجد أن كلتا الحركتين بدأتا كانقلابات عسكرية لكنهما تطورتا لتصبحا ثورات ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية أوسع.
أهداف الثورة الستة.. ماذا تحقق وماذا تبقى؟
القضاء على الاستعمار وأعوانه
تمكَّنت الثورة من تحقيق هذا الهدف جزئياً.. بعد تأميم قناة السويس في عام 1956، خاضت مصر أزمة السويس (العدوان الثلاثي) التي انتهت بانسحاب القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية.
شكَّل هذا الانتصار نهاية للوجود الاستعماري المباشر في مصر. مع ذلك، لا يزال النفوذ الأجنبي موجوداً في الاقتصاد والسياسة بشكل غير مباشر.
القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم
نفّذت الثورة سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية، منها تأميم الشركات الكبرى والبنوك وإعادة توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين. في السنوات الأولى بعد الثورة، انخفضت سيطرة رأس المال الخاص على الاقتصاد، إذ بلغ معدل التأميم نسبة كبيرة من القطاعات الاستراتيجية. لكن، في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، شهدت مصر عودة تدريجية لسيطرة رأس المال الخاص ورجال الأعمال على جزء كبير من الاقتصاد. في حكومة أحمد نظيف، التي تشكلت في عام 2004، أطلت ظاهرة جديدة بوجود رجال أعمال بارزين في مناصب وزارية مؤثرة، على سبيل المثال:
رشيد محمد رشيد: وزير التجارة والصناعة، والذي كان له دور كبير في تنفيذ سياسات الخصخصة وجذب الاستثمارات الأجنبية.
أنس الفقي: وزير الإعلام، الذي جاء من خلفية تجارية.
أحمد المغربي: وزير الإسكان، وكانت له نشاطات واسعة في قطاع الأعمال.
محمد لطفي منصور: وزير النقل، وهو من كبار رجال الأعمال.
هذا التوجه أدى إلى تعزيز سيطرة رأس المال الخاص على السياسات الحكومية، ما أثار انتقادات واسعة حول تأثير المصالح الخاصة على القرارات العامة.. ما يجعل البعض - وأنا منهم - نرى أننا عدنا إلى مرحلة سيطرة رأس المال على الحكم، إذ أصبحت غالبية القرارات التي تصدرها الحكومات المتعاقبة تخدم الرأسماليين الجدد.
إقامة جيش وطني قوي
عملت الثورة على إعادة بناء الجيش المصري وتعزيزه ليصبح قوة إقليمية. تطور الجيش بشكل ملحوظ في السنوات التالية للثورة، فزادت ميزانية الدفاع وجرى تحديث الأسلحة..
خاض الجيش المصري حروباً مهمة، مثل حرب 1956، وحرب 1967، وحرب 1973 اليوم، يعدّ الجيش المصري من أقوى الجيوش في المنطقة، لكن يظل السؤال مطروحاً: هل ما زالت عقيدة الجيش المصري أن الكيان الصهيوني هو العدو الرئيسي؟ هذا السؤال يحتاج للإجابة عنه في مقال مستقل، وهذا ربما ما سأعمل عليه مستقبلًا.
إقامة عدالة اجتماعية
تبنَّت الثورة سياسات تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، مثل الإصلاح الزراعي الذي تضمن تحديد حد أقصى للملكية بـ50 فداناً، ووزعت الأراضي التي انتزعتها من كبار الملاك على المعدمين من العمال الزراعيين، وعملت على توفير التعليم المجاني والرعاية الصحية المجانية.
أسفرت هذه السياسات عن تحسن ملحوظ في مستوى المعيشة للفئات الأكثر فقراً في البداية، لكن جاء السادات وأعاد بعض الأراضي إلى كبار الملاك وتراجعت السياسات التي كانت داعمة للفقراء بشكل كبير، وأصبحت السياسات الاقتصادية في خدمة كبار الملاك، ما أدى إلى عودة اتساع الفجوة بشكل ملحوظ بين الفقراء والأغنياء، وذلك أحد أكبر التحديات في المجتمع المصري، مع تفاقم معدلات الفقر والبطالة في العقود الأخيرة.
إقامة حياة ديمقراطية سليمة
كانت الثورة تهدف إلى بناء نظام ديمقراطي يتيح مشاركة واسعة من المواطنين في الحياة السياسية. ومع ذلك، فإن الحكم العسكري الذي تلا الثورة لم يسمح بوجود ديمقراطية حقيقية. تم تقييد الحريات السياسية، وتم إلغاء الأحزاب المعارضة، وأصبحت الانتخابات تحت سيطرة الدولة.
شهدت مصر فترة من الحكم الفردي عبر تفرد التنظيم الواحد (الاتحاد الاشتراكي العربي) بالحياة السياسية في البلاد، وظل ذلك على مدار فترة حكم جمال عبد الناصر، ومن بعده أنور السادات الذي دعا إلى تأسيس منابر تحوّلت إلى أحزاب في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، ولكن ظلت تحت سطوة الجهاز الإداري للدولة.
وحسني مبارك أجرى تعديلاً دستورياً في العام 2005 ينص على انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام، ومن بين أكثر من مرشح بدلاً من الاستفتاء الذي كان قائماً منذ دستور 1956، ويقال إن التعديل جاء تحت ضغوط أميركية وفي إطار مشروع توريث الحكم لنجله جمال.
لم تتحقق الديمقراطية التي بشَّرت بها ثورة يوليو، وظلت مصر تحت حكم نظام استبدادي لفترات طويلة، اتسم بتقييد الحريات وتراجع ملحوظ في قواعد حقوق الإنسان، مع وجود برلمانات صورية وانتخابات شكلية. بعد ثورة 25 يناير 2011، ظهرت آمال جديدة في تحقيق حياة ديمقراطية سليمة، بيد أن الطريق لا يزال طويلاً وصعباً.
دروس التاريخ
ثورة 23 يوليو، بمرور 72 عاماً، تظل واحدة من أكثر اللحظات الحاسمة في تاريخ مصر الحديث.. هذه الثورة لم تكُن مجرد حدث سياسي، بل كانت حلم أمة تسعى للتغيير والعدالة والتحرر.
على الرغم من أن الطريق كان مليئاً بالتحديات والإخفاقات، فإن إرث هذه الثورة يظل محفوراً في ذاكرة المصريين. الذكرى الـ 72 لانطلاق الثورة هي فرصة لتقييم إنجازاتها وإخفاقاتها، والتفكير في مستقبل مصر.
لا يمكننا أن ننسى الدروس المستفادة من الماضي، ويجب علينا أن نستخدمها لبناء مستقبل أفضل لأجيالنا القادمة، مستندين إلى الحقائق والوقائع لتحقيق الأهداف الأصيلة التي قامت من أجلها الثورة، لأن مصر تستحق الأفضل، ومصيرها يجب أن يكون في أيدي أبنائها الأوفياء.