تعيين الرياض سفيراً لها في دمشق: المسار الإيجابيّ لم يتوقّف
ما الذي يدفع الرياض إلى رفع مستوى علاقاتها السياسية مع دمشق في ظل "انحباس" الآمال بإمكانية حدوث انفراجات سياسية على صعيد معالجة الأزمة السورية؟
منذ الإعلان السعودي عن تعيين سفير للمملكة في دمشق، والتحليلات السياسية والإعلامية للخبر لم تتوقّف. فهناك من عدّ أن الخطوة جاءت في سياق التحوّلات الإقليمية التي تشهدها علاقات الرياض بدول المنطقة، وهناك من قرأها كجزء من تفاهمات أوسع لا تتعلق فقط بمآلات الأزمة السورية، وإنما بالأوضاع العامة التي تشهدها المنطقة من حرب غزة إلى العوامل المهدّدة لاستقرار دول المنطقة وأمنها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لكن كل ذلك كان يتم من خلال منظور سياسي محوره الأساس الموقف من دمشق أولاً، ومن القرار السعودي باستئناف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا قبل أكثر من عام ثانياً.
وهذا ربما ما يفسّر أن مضمون بعض الكتابات كان أقرب إلى "التخيّلات" منها إلى التحليلات، كالحديث مثلاً عن أن الخطوة السعودية جاءت من قبيل مكافأة دمشق على موقفها "الحيادي" من الحرب "الإسرائيلية" على قطاع غزة، أو أنها جاءت بعد تقديم دمشق لالتزامات معيّنة خلال اللقاء الذي جمع الرئيس بشار الأسد مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أو رغبة الرياض بتأدية دور أكبر في جهود حل الأزمة السورية من خلال تعزيز حظوظها باستضافة أعمال اللجنة الدستورية المتوقّفة منذ عدة أشهر.
مؤشّرات إيجابية
تذهب معظم المؤشّرات التي حملتها الأشهر الماضية، والتي أعقبت استئناف دمشق والرياض لعلاقاتهما الدبلوماسية، إلى أن الإعلان السعودي عن تعيين سفير في سوريا لم يكن ينتظر نتائج مجريات اللقاء الذي جمع الرئيس الأسد بالأمير محمد بن سلمان كما اعتقد البعض، فالمتعارف عليه دبلوماسياً أن تعلم الدولة نظيرتها باسم السفير المقترح تعيينه طلباً للموافقة عليه، وتالياً فإن الرياض ودمشق كانتا قد أنهيتا سابقاً كل الإجراءات الدبلوماسية المعتادة والمتبعة في حالة تعيين السفراء، وانتظرتا اللقاء الهام ليتمّ الإعلان عن الخطوة لتكون بمنزلة تأكيد للمسار الايجابي الذي تسلكه علاقات البلدين.
وهذا يبدو طبيعياً في ضوء جملة من التطورات الهامة التي شهدتها علاقات البلدين منذ استئناف علاقاتهما الدبلوماسية قبل أكثر من عام. من تلك التطورات يمكن الإشارة إلى ما يلي:
- تقديم السفير أيمن سوسان في نهاية العام الماضي أوراق اعتماده كأول سفير سوري في الرياض منذ العام 2012. واللافت أن دمشق اختارت معاوناً لوزير الخارجية سفيراً لها في الرياض، وهو إجراء عادة ما تتبعه مع الدول التي لها مكانة خاصة على خريطة علاقاتها الدبلوماسية، حيث يجري اختيار مسؤول سياسي كبير (عضو قيادة في الحزب ـــــ وزير سابق ـــــ نائب أو معاون وزير خارجية ـــــ سفير مخضرم).
- قيام عدد من الوزراء السوريين خلال الأشهر الماضية بزيارة الرياض في زيارات رسمية أو للمشاركة في مؤتمرات إقليمية ودولية، فضلاً عن زيارات مماثلة لرجال أعمال وشخصيات اجتماعية عامة غايتها البحث في مجالات التعاون الثنائي والتأسيس لمشاريع مشتركة.
- إعادة الرياض ملف الحج إلى وزارة الأوقاف السورية، واعتمادها للجوازات الصادرة عن وزارة الداخلية السورية كوثيقة وحيدة للسماح للحجاج ممن يحملون الجنسية السورية بدخول أراضيها.
- تحسّن المبادلات التجارية بين البلدين خلال الأشهر الماضية، والتي وإن كانت لم تنقطع طيلة فترة الحرب السورية والقطيعة الدبلوماسية بين البلدين، لكنها باتت اليوم مرشّحة لمزيد من الارتفاع نتيجة التنسيق المشترك بين الفعّاليات الاقتصادية بين البلدين، ومعالجة ما يعترض تلك المبادلات من صعوبات أو مشكلات.
- قيام القائم بالأعمال في السفارة السعودية في دمشق بأنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية تتجاوز في العادة أنشطة أي دبلوماسي في سفارة أخرى، وهو ما يؤكد أن الرياض تعمل على إعادة بناء علاقاتها مع المؤسسات السورية العامة والمجتمعية. فمثلاً خلال الفترة الماضية جرى حديث عن اهتمام القائم بالأعمال السعودي بزيارة بعض المراكز الصحية، والاطلاع على واقعها واحتياجاتها في ظل الحصار الذي تعاني منها سوريا.
الحاجز الأميركي
منذ اللحظات الأولى لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية واستئناف معظم الدول العربية لعلاقاتها الدبلوماسية معها، ودمشق على قناعة أن مستوى علاقاتها السياسية والاقتصادية مع محيطها العربي سيبقى مرهوناً بتطورات موقف الإدارة الأميركية، التي تفرض عقوبات قاسية على الاقتصاد السوري والكيانات والمؤسسات الإقليمية والدولية التي تحاول أن تتعاون مع نظيراتها السورية في شتى المجالات بما فيها تلك المرتبطة بالجانب الاستثماري أو حتى الإغاثي أحياناً.
ولا سيما أنّ دمشق اختبرت ذلك عندما طلب منها قبل نحو ثلاثة أعوام المساعدة في نقل الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان عبر خط الغاز العربي ومشروع الربط الكهربائي، وقد أفشلت الولايات المتحدة كل ذلك على الرغم من محاولتها إعلامياً القول عكس ذلك.
وقد أصابت التقديرات السورية مرة أخرى، إذ بعد مرور أكثر من عام على تحسّن علاقاتها مع معظم الدول العربية، فإن الانفتاح العربي لم يحمل معه أي مؤشرات إيجابية على الصعيد الاقتصادي، والذي يعتبر الأهم بنظر السوريين في ظل الضائقة التي يعانون منها من جرّاء عدّة عوامل، ولا يتوقّع أن يحدث غير ذلك مع تعيين الرياض سفيراً لها، إلا إذا كانت هناك ضمانات أميركية للمؤسسات السعودية الاستثمارية بعدم التعرّض لها بالعقوبات المنصوص عليها في قانون "قيصر".
لكن ما الذي يدفع الرياض إلى رفع مستوى علاقاتها السياسية مع دمشق في ظل "انحباس" الآمال بإمكانية حدوث انفراجات سياسية على صعيد معالجة الأزمة السورية؟
للإجابة عن هذا السؤال دعونا نسأل سؤالاً مشابهاً: وما الذي يجعل تركيا تبدو مهتمة بالحوار مع دمشق، وتسعى إليه برغم احتلالها لمناطق سورية حدودية واسعة، وسيطرة فصائل مسلحة تدعمها سراً وعلانية على مناطق أخرى في إدلب وحلب؟
الاهتمام السعودي بإيجاد حل للأزمة السورية وتداعياتها الكارثية على المنطقة لا يلغي وجود عوامل أخرى تدفع الرياض إلى استعادة علاقاتها مع دمشق وتوسيعها لاستثمارها في الجهود الرامية لإيجاد حل للأزمة السورية من ناحية، وفي إعادة تفعيل التعاون الثنائي والإقليمي من ناحية ثانية، فهناك ملفات إقليمية مشتركة لا يمكن مقاربتها من دون توافق ثنائي سوري ـــــ سعودي، كمساعدة لبنان على تجاوز مشكلاته وأزماته السياسية والاقتصادية، حل الصراع العربي-الإسرائيلي، والذي لا يمكن أن يتم بشكله النهائي من دون مشاركة سوريا حتى لو توافق الجميع على إقامة دولة فلسطينية وفق حدود الرابع من حزيران/يونيو لعام 1967.
وهناك أيضاً ملف الإرهاب والجماعات التكفيرية (داعش وغيرها) وعصابات تهريب المخدرات، وجميعها باتت تشكّل خطراً حقيقياً على دول المنطقة واستقرارها.
وكما أن التموضع الجغرافي لسوريا يفرض على دول مثل تركيا والأردن فتح قنوات تواصل وتعاون مع دمشق بمعزل عن تطورات الأزمة السورية والمواقف الغربية منها، فإن المصالح الإقليمية وما تشهده المنطقة من متغيّرات غير مسبوقة في ضوء العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ نحو 290 يوماً يفرض على دول أخرى عديدة التعاون فيما بينها لحماية مصالحها الوطنية وأمنها القومي.
لا تنازلات
مختصر القول: إن الحديث عن وجود تفاهمات واتفاقات فيما يتعلّق بمستقبل الأزمة السورية لا يمكن أن يكون مؤشّره تعيين سفير على أهمية الخطوة، فالعديد من الدول الأوروبية لا تزال تحتفظ بقنوات تواصل دبلوماسية مباشرة مع دمشق، كما أن الإمارات والبحرين وسلطنة عمان سبقت الرياض بتعيين سفراء لها في دمشق.
لكن عندما توقف الولايات المتحدة الأميركية العمل ببعض عقوباتها المفروضة على دمشق يمكن القول إن هناك مساراً سياسياً يجري التحضير والعمل عليه، وعندما تعيد واشنطن بعضاً من حقول النفط للسيطرة الرسمية السورية يمكن القول إن هناك "طبخة" سياسية تعدّ. وإلا ما الذي قدّمته إيران أو السعودية للأخرى عندما وقّعتا على اتفاق لاستئناف علاقاتهما الدبلوماسية؟