تركيا تخشى دفع ثمن إطالة الحرب في أوكرانيا

لا شكّ في أن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا ستكون لها انعكاسات في غير مصلحة حزب العدالة والتنمية، الذي يعمل على الموازنة بين موسكو وواشنطن.

  • تراهن تركيا على الاستفادة من خط الغاز البحري الإسرائيلي، الذي يجري تخطيطه ليكون بديلاً عن الغاز الروسي.
    تراهن تركيا على الاستفادة من خط الغاز البحري الإسرائيلي، الذي يجري تخطيطه ليكون بديلاً عن الغاز الروسي.

تُظهر التطورات أن الحرب الروسية الأوكرانية ستطول، وسيحتاج العالم إلى النظر في هذا الاحتمال، إذ بنت عدة دول حساباتها على أساس أن الأزمة لن تأخذ مساراً طويلاً، وسيكون الحسم سيد الموقف، إن عسكرياً أو دبلوماسياً، إلّا أن الأمور بدأت تأخذ منحىً تصاعدياً، فالموضوع ليس أوكرانيا، وإنما هو النظام العالمي الذي بنته الولايات المتحدة الأميركية منذ أكثر من ثلاثين عاماً على أساس نهاية المنظومة الشيوعية، فتوسعت في بلدان حلف وارسو الذي انتهى بعد إسدال الستار على الاتحاد السوفياتي لينهض من جديد في إطار حلف الناتو، ويجري استخدامه لضرب إمكان قيام روسيا من جديد.

تستهدف الولايات المتحدة وحلف الناتو القوةَ التي أعادت بناءها روسيا، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. وما الضربة الاستباقية الروسية في أوكرانيا سوى خطوة دفاعية، فالغرب، في آلته العسكرية، الناتو، زحف من أجل التوسع عبر الثورات الملوَّنة في الملعب الجغرافي الروسي، واتضحت صورة الإعداد من أجل إسقاط موسكو عبر البحث عن بدائل عن الغاز الروسي، الذي ترى واشنطن أنه أحد أهم عوامل  تقدُّم موسكو، عسكرياً واقتصادياً. وهذا ما يفسّر وقوفها ضد مشروع "نورد ستريم"، حتى قبل أن يولد، ومحاولة الناتو استعادة القرار في تركيا عبر محاولة الانقلاب على الرئيس التركي في عام 2016 بعد اعتذاره إلى روسيا في إثر إسقاطه طائرة السوخوي في عام 2015.

وإذا كانت تركيا تُعَدّ من البلدان المفتاحية في الصراع الأوكراني الروسي نظراً إلى موقعها الجيواستراتيجي وعلاقتها التجارية بالبلدين، إلّا أن مصالحها مع روسيا تبقى مهمة، ليس اقتصادياً فحسب، وإنما أيضاً من باب موقعها في سوريا والقوقاز وآسيا الوسطى. وعلى الرغم من أن تركيا جزءٌ من حلف الناتو، فإنها اتخذت موقف الاستقرار في المراحل الأولى من الحرب، فقامت بإغلاق مضيق البوسفور أمام السفن الحربية من خلال تفعيل اتفاقية مونترو، وقرّرت عدم المشاركة في عمليات الحظر المعلنة ضد روسيا، واستمرار التعاون مع أوكرانيا، وإيصال المساعدات الإنسانية. كما ساهمت في جمع وزيرَي خارجيتَي البلدين في أنطاليا في الـ10 من آذار/ مارس الماضي، ثم اجتمع وفدا البلدين في إسطنبول في الـ29 من آذار/ مارس.

راهنت تركيا على عدم امتداد الحرب وقتاً طويلاً، وقدرتها على استعادة الوضع كما كان من قبلُ، وخلال وقت قصير، وتحويله لمصلحتها من أجل الخروج من الأزمة الاقتصادية، لكن في حال امتدّت الحرب إلى خريف عام 2022 وشتائه، فهذا سيعني مواجهة صعوبات في واردات النفط والغاز الطبيعي، إذ ستزيد في التكلفة بصورة مضاعفة مع استمرار الأسعار في التصاعد، ولاسيما أن الاتحاد الأوروبي يُجري حساباته بناءً على احتمال إطالة أمد الحرب، حتى نهاية عام 2022، بعد اتخاذ  كل من الولايات المتحدة الأميركية وإنكلترا وكندا وألمانيا، قراراً يقضي بإرسال أسلحة ثقيلة ومدرَّعات ومدافع هاون إلى أوكرانيا، بينما أعلنت روسيا أنها ستعدّ مركبات الناتو التي تحمل أسلحة لأوكرانيا عدوةً.

تريد الولايات المتحدة إطالة أمد الحرب وانهيار روسيا اقتصادياً، بينما أعلن الجيش الروسي أنه سيعرض أسلحته الجديدة في أثناء العرض العسكري للاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية، والذي أُقيم في الساحة الحمراء في موسكو.

تخشى الحكومة التركية خسارة الرهان على انتهاء الحرب، فهي ما زالت، عبر تصريحات إردوغان، تسعى للتوسّط بين المتحاربين والحصول على مكتسبات، وتحاول إخفاء محاولاتها إيجاد بدائل عن استجرار الغاز وأداء دور إقليمي يعوّمها لدى الغرب. فالتضخّم تجاوز 68% وشعبية اردوغان تتأثر برداءة الوضع الاقتصادي. لذلك، بذل الرئيس التركي جهوداً في تطبيع العلاقات بـ"إسرائيل" ومصر والإمارات العربية المتحدة واللاعبين الإقليميين الآخرين، الذين عدّتهم أنقرة في السابق خصوماً، وهدفت الحكومة التركية، من خلال هذه السياسة، إلى كسر عزلتها الإقليمية والحصول على مكتسبات اقتصادية.

البحث عن دور في تصدير الغاز إلى أوروبا

شهدت تركيا في شهر نيسان/أبريل الماضي أعلى معدل لصادراتها، لكن لا يزال بند الطاقة يحتل مكانة مهمة في حجم الواردات التي تكاد تعادل الصادرات، وهذا الأمر يسبب قلقاً لأنقرة التي تراقب سعي الولايات المتحدة للبحث عن المصادر البديلة عن إمدادات أوروبا بالغاز الروسي، بصورة مستدامة وآمنة، بعد أن كانت تعمل، على نحو متقطّع، على إبدال الغاز الروسي بغيره في شرقي المتوسط، وإطلاق ضربة استراتيجية لمستقبل إمدادات الغاز الطبيعي الروسي لأوروبا، عبر المحادثات مع قطر وغيرها من الدول المنتجة للغاز، ومحاولة التقرب مجدداً إلى السعودية من أجل تخفيض أسعار النفط ومحاولة إرضائها.

تراهن تركيا على الاستفادة من خط الغاز البحري الإسرائيلي، الذي يجري التخطيط له ليكون بديلاً عن الغاز الروسي، وهو يمثّل أولوية بالنسبة إلى تركيا. وبدأت حكومة الاحتلال الإسرائيلي إعداد دراسات اقتصادية وفنية لهذا المشروع. 

سعت تركيا في الفترة الماضية، عبر مساعدة أذربيجان في حربها ضد أرمينيا على استعادة ناغورنو كاراباخ، لزيادة تعاونها معها، ليس عسكرياً فقط، وإنما عملت أيضاً، بصورة وثيقة، مع باكو في سبيل فتح طريق عبور رئيسٍ لأذربيجان، بالنسبة إلى صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا. وفي أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2020، استلمت أوروبا أول شحنة غاز طبيعي من أذربيجان عبر ممر الغاز الجنوبي. ينقل خط الأنابيب، البالغ طوله 3500 كيلومتر، الغاز من حقل شاه دنيز في القطاع الأذربيجاني من بحر قزوين عبر جورجيا وتركيا إلى إيطاليا. دعمت أنقرة مشروع خط أنابيب الطاقة الاستراتيجي هذا، وساعدت باكو على تأمين الدعم الأوروبي، سياسياً ومالياً.  

لكنها وقفت في حيرة أمام طلب بلغاريا من أنقرة تزويدها بالغاز عبر وصلات خطوط الأنابيب المباشِرة إلى بلغاريا واليونان، بعد وقف صادرات الغاز الروسي إلى بلغاريا، العضو في الاتحاد الأوروبي بموجب قرار من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقضي بوجوب دفع دول الاتحاد الاوروبي، الدول غير الصديقة لروسيا، بدلات الغاز بالروبل، وإلّا فسيتمّ وقف التصدير. استهلاك الغاز في بلغاريا منخفض، بحيث يقل عن 3.5 مليارات متر مكعب في العام. تم توفير معظمه من جانب روسيا، مع كمية أقل تأتي من أذربيجان عبر تركيا واليونان. سيتعين على أنقرة،  في هذه الحال، أن تقرر ما إذا كانت تريد المخاطرة بإغضاب روسيا، أكبر مورّد للغاز إلى تركيا، من خلال مساعدة دولة في نزاع مع موسكو.

كانت تركيا تعاني مشكلة أسعار الغاز بالجملة، والتي كانت ترتفع إلى مستويات غير مسبوقة حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا. مع مؤشر أسعار الغاز بالجملة بالدولار الأميركي وهبوط قيمة الليرة التركية، تفاقمت هذه المشكلة في تركيا، وليس لديها مصادر بديلة عن الغاز الروسي في هذه الفترة العصيبة.

لا شك في أن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا ستكون له انعكاسات لا تصبّ في مصلحة حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يعمل على الموازنة بين روسيا والولايات المتحدة، في الوقت الذي تصعّد واشنطن، غير آبهة بمصير بعض الدول التي تعاني أوضاً اقتصادية متعَبة، بينما يلتحق الاتحاد الأوروبي بالسياسة الأميركية، الأمر الذي يعقّد حسابات أنقرة.