بعد تغيّر تركيبة مجلس الأمة.. الكويت إلى أين؟
ثمة تلكؤ إداري رهيب يعم الكويت، يفضي إلى شهوة فساد وشبق محسوبيات، تُعمي بصر الدولة عن الانتقال إلى التقانة الحديثة رغم الوفرة.
حصلت المعارضة في الكويت على نصيب وافر من مقاعد مجلس الأمة بنسبة تصل إلى 60% من البرلمان. وقد تغيرت تركيبة البرلمان بفوز 30 نائباً محسوباً على المعارضة، بينهم رئيس مجلس الأمة الأسبق أحمد السعدون، الذي أعيد تنصيبه رئيساً للمجلس في الدورة الحالية.
النتائج تشير إلى أنَّ المكون الشيعي حصد 10 مقاعد، في سابقة لم تحدث من قبل، بحسب بعض وسائل الإعلام الكويتية، في حين حصد الإسلاميون -بين سلفيين وإخوان ومستقلين- 8 مقاعد.
هناك الكثير من التعليقات على التركيبة الجديدة، وهي ليست طارئة على كلّ حال، وليست مفاجئة أبداً، في ظل تلكؤ التركيبة السابقة برئاسة مرزوق الغانم، التي عدّت تركيبة شبه حكومية تسعى لأداء أدوار رقابية على الأمور الفرعية وترك المشاكل الرئيسية للبلاد، ومنها قضية "البدون"، التي دأب البرلمان السابق في تجاوزها بطريقة أو بأخرى، مستغلاً ذريعة الأولويات والدخلاء، وقافزاً على قصص المعاناة التراكمية التي تراكمها هذه القضية على منافس الأمن القومي الكويتي والسلام الاجتماعي، النائم على عدد من حصى المشاكل الأخرى.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الكويت تحتاج إلى نفَس هادئ وطويل في حلحلة القضايا العالقة. وقبل ذلك، فإن إعادة ترتيب الأولويات -لو تمت- ستساهم في ضبط الوجهة الصحيحة و"الصحية" للدولة، فلا يمكن إغفال قضية الحدود وحقل الغاز المشترك (حقل الدرة) ومسألة حماية الأمن القومي بعد الحديث عن نضوب القوى العظمى التقليدية عن الفعل الدولي والفاعلية في منظوماتها الدفاعية في ما يُعرف باسم "الحرب الحديثة"، التي غيرت معادلات التفوق الجوي للغرب أمام مسيّرات رخيصة الثمن وكثيفة العدد والمتطورة. كلّ تلك الحزم وغيرها تثقل كاهل الإمارة الخليجية التي تعافت للتو من غزو صدام حسين التي اجتاحها قبل 3 عقود.
تلك الحزم تحتاج إلى مزيد من الحسم البعيد عن الغرور النفطي والرخاء الذي اشتغل على إرخاء الإرادة الخليجية في الاعتماد على الذات. لعلَّ شيئاً من ذلك هو ما دفع ولي العهد الكويتي، الأمير مشعل الأحمد، في كلمته الموجهة إلى أعضاء البرلمان لمناسبة دور الانعقاد العادي الأول من الفصل التشريعي السابع عشر للبرلمان يوم الثلاثاء 18 تشرين الأول/أكتوبر إلى القول: "سوف أكون شخصياً أول من يقوم بمحاسبة الحكومة في تنفيذ برنامج عملها".
ولفت الأحمد إلى الفتن، وقال: "الفتن محدقة بنا من الداخل والخارج، ونحن مشغولون بأتفه الأسباب التي يمكن تجاوزها بحكمة"، فكيف يمكن تجاوز أتفه الأسباب بالحكمة، في حين أنَّ الفتن محدقة بالكويت من كل جانب، بحسب وصف ولي العهد؟
هناك عقبات ثلاث تواجه الكويت، في مقابل مميزات يمكن استثمارها بقوة في الفعل السياسي الذي ينبغي أن يكون استثنائياً، لأنَّ الظرف الدولي استثنائي كذلك.
العقبات الثلاث هي:
1- سيطرة طبقة التجار على مفاصل الدولة.
2- قضية البدون.
3- نظامان داخل نظام واحد.
التجار والتكنوقراط وهُوية الدولة
ثمة سؤال مُلحّ يطرق أبواب الدولة الغنية بالنفط بقوة: هل المسؤولون من عوائل تجارية في الأصل أو أنهم استثمروا مناصبهم فصاروا من طبقة التجار والمستثمرين أو أنَّ الأمر هجين بين الحالتين، إلى درجة مرض التوحد الذي يدمج القدرات الاستثنائية أحياناً مع الإعاقة الذهنية في الوقت نفسه؟
ثمة تلكؤ إداري رهيب يعم الكويت، يفضي إلى شهوة فساد وشبق محسوبيات، تُعمي بصر الدولة عن الانتقال إلى التقانة الحديثة رغم الوفرة. ورغم الوفرة نفسها، يبقى لسان المديونية طويلاً ليلجم الميزانية بسطوة قاهرة.
وفي الوقت الذي يزداد التجار ثراءً فاحشاً، تشير أرقام حديثه نشرها معهد "كارنيجي" إلى أنَّ نسبة 71% من الميزانية مخصّصة للرواتب والدعم، في ظل بلوغ العجز في الميزانية العامة 46 مليار دولار.
بالتزامن مع ذلك، ثمة ارتفاع كبير جداً في المصاريف الحكومية. على سبيل المثال، صرفت الدولة 22.7 مليار دولار في 2005-2006، في حين صارت مصاريفها 70.3 ملياراً في 2020-2021، فهل هذا من مخلفات الرأسمالية المحضة التي تراكم الديون، أو أنه مشكلة الدولة الريعية التي تنام في الرخاء وتفزع إذا اختنقت، أو ثمة فساد مستشر غير ظاهر بسبب الرداء الغني الذي يغطي تأكّله؟
البدون أولوية من؟
سعى أبناء الكويت من فئة البدون لنشر وسم "البدون أولوية" ليكتبوا تحته كلّ معاناتهم وشكاواهم واقتراحاتهم وخطواتهم الساعية لنيل حقوقهم. ثمة خطل عجيب تعجنه النخبة السياسية إزاء هذه المسألة الشائكة، فالآلاف من فئة البدون في الجيش والأمن، فيما يقبع آلاف مضاعفة تحت وطأة الحرمان، وتتفاقم معاناتهم بالتوازي مع تصاعد تنظيرات المتخمين من التجار والطبقة المخملية في شأن هذه الفئة، التي وإن استبطنت تفاصيلها بعض الآلاعيب من قبل وافدين طارئين، إلا أنَّ أس المشكلة جذري يداعب أصول العوائل العريقة في الكويت.
وقد كتبت عدة مقالات في هذا الشأن، لكن ما أودّ التطرق إليه هنا هو أنَّ هذه القضية تعد من القضايا الأساسية التي تفرز مشاكل أمنية واجتماعية واقتصادية في حال عدم وصول السلطات الثلاث إلى مرفأ الاتفاق بشأنها، والانطلاق منه إلى الحلول العملية المدروسة والمباشرة، وإلا فالتفاقم هو الطبيعة الطبيعية لمثل قضية صعبة مستصعبة كقضية البدون.
السلطات الثلاث.. والتشتت المستمر
منذ تحرير الكويت عام 1991، تفاقم الخلل في طريقة الحكم في الدولة، فالنظام يجمع بين النظامين الرئاسي والبرلماني، والدستور يفسح المجال للانسداد السياسي في حال اشتداد الخلاف بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، ما يدفع الأمير إلى حل البرلمان.
وقد تكرّرت هذه الحالة أكثر من مرة، إلى درجة أنَّ بعض تلك المرات وصفت بالكاريكاتورية، لأنَّه لا معنى لحل البرلمان كلَّما اشتد الخلاف، وخصوصاً إذا كان خلافاً غير جوهري، الأمر الذي يعطّل الدولة بنحو ما، وهذا أحد أسباب تقوقع الكويت على النفط كمصدر رئيسي للدخل، ما يتركها أسيرة تقلبات السوق، وإن كان ذلك لا يظهر على الرواتب ومستوى المعيشة بشكل مباشر، إلا أنه يضع الدولة في قيدٍ هي قادرة على الانفكاك منه، فالجو الدولي ليس دائماً مرخى تحت الفرقاطات الأميركية، وهو ليس صافياً دائماً في ظلّ العواصف البعيدة التي تضرب شرق أوروبا، والتي قد تأتي بارتداداتها إلى منطقتنا بشكل مباشر.
كما أنَّ التوازنات في تخوم الخليج تختلف، فهناك صعود كبير للجمهورية الإسلامية في إيران في المسرح العالمي، وهناك نهوض مرتقب لليمن كلاعب إقليمي مهمّ، كما أنَّ هناك عودة إلى سوريا التي ستغدو منيعة أكثر من ذي قبل. في ظل كل ذلك، ماذا فعلت الكويت لحماية نفسها غير الحلول التقليدية التي تلجأ في الاعتماد الأمني إلى غيرها؟
الكويت إلى أين؟
هذا السّؤال المؤرق بات يشكّل ضرورة في البحث والتفاعل من قبل النخبة السياسية، ولم يعد الرهان على التخمة المالية مجدياً للأسباب المذكورة آنفاً، ومن أهمها تغير العالم من حولنا. وبناءً عليه، فإنَّ الحراك الاجتماعي في المشاركة السياسية في الكويت يعدّ علامة على أهمية هذا السؤال، إذ تفيد بعض المؤشرات بأنَّ المشاركة السياسية في هذا البلد هي الأولىأو خليجياً، ما يعني الاهتمام المتزايد من الناس، وكذلك توفر المناخ الذي يتيح التغيير، ولو بصورة غير كاملة.
وبهذه المميزات التي تحظى بها الكويت، ستتحدّد وجهة الدولة بحسب تعانق الإرادات الجدية في صناعة الحلول. وأول عقبة تُزاح من هذا الطريق إذا أُريد سلكه هو تحييد المؤثرين من النخبة السياسية ممن يقدمون مصلحتهم الشخصية أو الفئوية على مصلحة البلد، لأنّ الحلول الجادة تحتاج إلى المصارحة المُرّة.