الاستثمارات العربيّة تلحق السياسة: واشنطن المستثمرة الأولى عربياً
تتباين الدول العربية فيما بينها في المقومات التي تتيح لها استقطاب استثمارات خارجية,.
لم تعد التجارة البينية بين دول المنطقة مؤشراً يمكن الاحتكام إليه وحده في قراءة المشهد السياسي الإقليمي والدولي أو تحليله، فقد تمكّنت ظاهرة العولمة على مدى السنوات السابقة من إيجاد فصل بين العلاقات السياسية وتطوراتها والعلاقات التجارية واتجاهاتها، وهذا ربما ما يجعل اليوم دولاً متحاربة سياسياً تحافظ على حد أدنى من مبادلاتها التجارية المشتركة.
في الاستثمار، يبدو الوضع مختلفاً، إذ يتبع قرار توظيف الأموال والخبرات للعلاقات السياسية بشكل واضح وصريح. وبقدر ما تحقق هذه العلاقات على المستوى الثنائي بين دول المنطقة أو بينها وبين الخارج تقدماً وتفاهماً، يزداد حجم الأموال المستثمرة والمشروعات المنفذة في كلا البلدين.
من هنا، إنَّ الإطلالة على الواقع الاستثماري العربي، سواء في حجم الاستثمارات الأجنبية وطبيعتها أو الاستثمارات العربية البينية، يمكن أن تساعد على فهم العوامل المؤثرة في مستقبل العلاقات السياسية للدول العربية مع الخارج، وتأثير ذلك في العديد من القضايا والمسائل الجوهرية، المتصل منها بالمصالح العربية المباشرة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وبالمتغيرات التي يشهدها العالم على خلفية التحالفات والحروب والأزمات الكبرى.
أوروبا الغربية أولاً
تتباين الدول العربية فيما بينها في المقومات التي تتيح لها استقطاب استثمارات خارجية، فهناك دول جعلتها الثروات النفطية هدفاً مرغوباً للاستثمارات الخارجية، سواء بغية تنفيذ مشروعات متعددة في سياق عملية استثمار تلك الثروات وما يرتبط بها، أو لتنفيذ مشروعات في قطاعات أخرى، مستفيدة من نقطتين: التطور العمراني والاقتصادي في تلك الدول، والإيرادات الضخمة المتحققة جراء عمليات استثمار الثروات النفطية والغازية، وهناك دول أخرى تتوفر لديها فرص استثمارية مغرية اقتصادياً، لكنها تفتقد المال والخبرة للاستفادة من هذه الفرص.
وفي منطقتنا العربية، يمكن مقاربة الاتجاهات السياسية في علاقاتها الخارجية من خلال مؤشرين في قطاع الاستثمار، الأوَّل يتعلق بالاستثمارات الأجنبية الوافدة إلى المنطقة العربية تبعاً لجنسيات المستثمرين الأجانب، وتكاليف استثماراتهم، ومجالات عملها، مع الإشارة إلى أنَّ المقصود هنا بالاستثمارات الأجنبية لا يعني الاستثمارات غير العربية، إنما غير المحلية، والمؤشر الآخر خاص بالاستثمارات العربية البينية بين الدول العربية، وفقاً للمؤشرات الفرعية نفسها أيضاً.
في المؤشر الأول، تظهر بيانات المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات في تقريرها الصادر في الآونة الأخيرة عن مناخ الاستثمار في الدول العربية، أنَّ مشروعات الاستثمار الأجنبي المباشر الجديدة في الدول العربية ارتفع عددها في نهاية العام 2021 بنسبة 37% مقارنة مع عام 2020، الّذي شهد بداية انتشار فيروس كوفيد 19 وما أعقبه من إجراءات احترازية عالمية.
ومع مقارنة هذه البيانات مع بيانات العام 2019، يتبين أن استثمارات عام 2021 شهدت تراجعاً تقدر نسبته بنحو 14%، علماً أن العام 2019 كان العام الثاني (بعد العام 2008) في عدد المشروعات الأجنبية الجديدة التي استقبلتها الدول العربية على مدار 19 عاماً.
وكما هو متوقّع سياسياً واقتصادياً، جاءت أوروبا الغربية أولاً كأهمّ منطقة جغرافية مستثمرة في الدول العربية خلال العام الماضي. وبحسب بيانات قاعدة الاستثمار الأجنبي المباشر في العالم التابعة لمؤسسة "فاينانشيال تايمز"، فإن مشروعات تلك المنطقة بلغ عددها نحو 342 مشروعاً، مشكّلةً بذلك نسبة قدرها 39.7% من إجمالي عدد المشروعات الجديدة في المنطقة العربية، بكلفة استثمارية تتجاوز 12.6 مليار دولار.
في المرتبة الثانية، جاءت منطقة آسيا والمحيط الهادئ بنسبة 20.9%، وبإجمالي تكاليف قدرها 7.5 مليارات دولار، فأميركا الشمالية ثالثاً، بنسبة عدد مشروعات تقدر بنحو 18.8%، وتكلفة استثمارية تتجاوز 5 مليارات دولار. ورابعاً، جاءت منطقة الشرق الأوسط بنسبة 15.4%، وتكلفة استثمارية تقدر بنحو 6.3 مليارات دولار، وهو ما جعل منطقة الشرق الأوسط في صدارة المناطق الجغرافية في متوسط التكلفة الاستثمارية للمشروع الواحد في المنطقة العربية، والذي بلغ نحو 47.1 مليون دولار.
تتّضح طبيعة وماهية تأثير التحالفات والعلاقات السياسية للدول العربية في المناخ الاستثماري فيها من خلال استعراض قائمة أهم الدول المستثمرة في المنطقة العربية. وفي هذا المجال، تكشف بيانات العام الماضي تصدّر الولايات المتحدة الأميركية قائمة الدول المستثمرة في المنطقة العربية بنحو 149 مشروعاً، بنسبة قدرها 17.3% من إجمالي عدد المشروعات الأجنبية الجديدة، تلتها المملكة المتحدة بنحو 109 مشروعات، وبنسبة 12.6%، فالهند ثالثاً بنحو 105 مشروعات، وبنسبة 12.2%، فالإمارات رابعاً بنحو 55 مشروعاً، وبنسبة 6.4%، وسويسرا خامساً بنحو 40 مشروعاً، وبنسبة 4.6%.
واللافت في البيانات دخول لبنان قائمة أهم الدول المستثمرة في المنطقة العربية، واحتلاله المرتبة العاشرة بنحو 18 مشروعاً، مشكّلة نسبة قدرها 2.1%. وبذلك، يكون مع الإمارات الدولتين العربيتين الوحيدتين من بين أهم 10 دول مستثمرة في المنطقة العربية.
وتأكيداً لما ذكر سابقاً، فقد استحوذت 5 دول عربية، هي الإمارات والسعودية وقطر ومصر والمغرب، على 90% من إجمالي عدد المشروعات الجديدة، وعلى 47% من إجمالي التكاليف الاستثمارية لتلك المشروعات.
الاستثمارات البينيّة العربيّة
كان من الطبيعي أن ينعكس واقع العلاقات السياسية العربية البينية على حجم الاستثمارات العربية البينية، فحالة التأزم والتوتر التي تشهدها هذه العلاقات عموماً منذ بداية العقد الثاني من القرن الحالي تركت تأثيراتها المباشرة في تدفق الاستثمارات العربية البينية التي تراجعت قيمتها من نحو 63 مليار دولار عام 2008 إلى نحو 11.8 مليار دولار عام 2011.
أما في الأعوام التالية لأحداث "الربيع العربي"، فقد تذبذبت قيمة تلك الاستثمارات بين عام وآخر لتحقق في العام 2020 ثالث أدنى قيمة لها خلال الفترة الممتدة من العام 2003 ولغاية العام 2021، فيما كانت أعلى قيمة لها هي تلك التي سجلتها عام 2018، والتي بلغت نحو 25.2 مليار دولار. أما في العام الماضي، فهي، وإن كانت قد شهدت تحسناً واضحاً مقداره 55% مقارنة بالعام 2020، إلا أنَّها احتلت المرتبة الرابعة كأدنى قيمة لها خلال الفترة المشار إليها سابقاً.
تخلص البيانات المتعلقة بالدول العربية المستثمرة في المشروعات البينية، والتي بلغ عددها العام الماضي نحو 13 دولة، إلى مجموعة من النتائج المهمة، منها:
- إنَّ تصدير الاستثمارات العربية البينية ليس محصوراً بدول الخليج العربي، كما هو شائع، فمن بين الدول الخمس الأولى في عدد مشروعاتها الاستثمارية البينية، هناك 3 دول خليجية و2 من خارج مجلس التعاون الخليجي، هما لبنان، الذي جاء في المرتبة الثانية بعد الإمارات بنحو 18 مشروعاً، ومصر التي جاءت رابعاً بنحو 10 مشروعات.
- إن عدم استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في بعض الدول العربية كان دافعاً للمستثمرين فيها إلى الخروج منها والبحث عن دول أخرى ضامنة وحامية للاستثمارات، وإلا ماذا يعني أن يحتل لبنان المرتبة الثانية بعدد المشروعات المنفذة، البالغ تكاليفها الاستثمارية نحو 327.4 مليون دولار، كذلك الحال بالنسبة إلى العراق الذي جاء في المرتبة 12، والسودان في المرتبة 13 والأخيرة.
- الدول المستقرة سياسياً تعاني أيضاً أزمات اقتصادية بأشكال مختلفة ومتباينة، كالأردن ومصر وتونس وغيرها، فقد صدرت كذلك مستثمرين إلى المنطقة العربية، ما يفترض أن يكون موضع بحث وتحليل من قبل حكومات تلك الدول.
- غياب سوريا عن بيانات المؤسسة العربية للاستثمار، وهي التي خرج منها الكثير من الأموال والشركات باتجاه دول عربية عديدة، نتيجة ظروف الحرب والأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد، يجعل من البيانات غير مكتملة، ولا تعطي صورة واضحة تماماً عن حركة الأموال العربية ضمن أسواق الاستثمار العربية.
وتأكيداً لدور العلاقات السياسية السائدة بين الدول العربية، والخطوات الاقتصادية المتخذة على الصعيد القطري، نشير إلى أنَّ قائمة الدول المستقبلة للمشروعات الاستثمارية العربية تكاد تتطابق تماماً مع قائمة الدول العربية المصدرة للاستثمارات البينية، فباستثناء دخول موريتانيا إلى قائمة الدول المستقبلة وخروج العراق منها، تتكرر أسماء الدول بين القائمتين، لكن مع اختلاف موقع كل منها وترتيبها وفقاً لعدد المشروعات وتكاليفها الاستثمارية وما توفره من فرص عمل.
وخلال العام الماضي، احتلّت السعودية المرتبة الأولى في قائمة الدول العربيّة المستقبلة للاستثمارات العربية، باستقبالها نحو 13 مشروعاً، فالإمارات بنحو 29، ومصر 18، وقطر 17، والبحرين 10، وسلطنة عُمان 6 مشروعات.
مخاوف مشروعة
إنَّ ما تضمّنه المناخ الاستثماري في الدول العربية من مؤشرات واتجاهات وثقتها البيانات الإحصائية الدولية يؤكد ما ذهب إليه موقع "الميادين نت" في مقالين سابقين؛ فالولايات المتحدة الأميركية، بتصدّرها قائمة الدول المصدرة للمشروعات الجديدة إلى المنطقة العربية، وهي المشروعات التي تعمل عليها أكثر من 117 شركة أميركية، تؤكد أنها باقية سياسياً واقتصادياً، وبقوة، في المنطقة.
ومع استحواذ القطاعات الاقتصادية الريعية على جزء كبير من قيمة الاستثمارات الأجنبية القادمة إلى المنطقة العربية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاستثمارات العربية البينية، فإنَّ هناك مخاوف حقيقية من أن يكون بعض الانتعاش الاقتصادي العربي المتحقق هنا أو هناك فقاعاتٍ سرعان ما تتلاشى مع أي أزمة اقتصادية تتعرَّض لها المنطقة مستقبلاً.