بايدن في السعودية.. الحاجة أم الاختراع
حاولت السعودية تنويع خياراتها الخارجية، لكنها ما زالت مهتمة بالشراكة التقليدية مع الولايات المتحدة.
شهدت العلاقات السعودية الأميركية تدهوراً عقب إبرام إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الاتفاقية النووية مع إيران عام 2015، وتحوّل الولايات المتحدة من الشرق الأوسط نحو شرقي آسيا لمواجهة الصعود الصيني.
اقتصر تعامل إدارة دونالد ترامب مع المملكة العربية السعودية على صفقات أسلحة بمئات المليارات من الدولارات. بدت السعودية كأنها تدفع إلى أميركا ثمن الحماية، كما كان يقول ترامب. حاول ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الاستفادة من تراخي قبضة واشنطن في الخليج، وأطلق العنان لطموحاته السياسية، عبر الانقلاب على بعض الأمراء المقرّبين إلى الحزب الديمقراطي الأميركي بعد القبض عليهم واتهامهم بالفساد، وأحكم عناصر قوته في الداخل السعودي. وعملت استخباراته في الخارج لخطف المعارضين، وسوقهم إلى سجون المملكة. وعمل على دعم صهر الرئيس ترامب، جاريد كوشنر، في علاقته برجال أعمال سعوديين. طالب ترامب المملكة بعقد صلح مع "إسرائيل" ضمن "الاتفاقيات الإبراهيمية"، وبغض الطرف عن طموح دولة الإمارات، وبدعم الحرب على اليمن، فيما أيّدت المملكة السعودية ودولة الإمارات إعادة ترشّح دونالد ترامب للرئاسة ودعمت حملته وموّلتها وراهنت على فوزه في وجه الديمقراطيين.
يمكن فهم موقف بايدن من السعودية ودولة الإمارت، وتجاهله قادتها في هذا الإطار في سابقة لم يعهدها تاريخ العلاقات الأميركية الخليجية، وكان قد بدأ عهده بوقف الدعم العسكري للتحالف، الذي تقوده السعودية ضد اليمن، ورفع "أنصار الله" عن قائمة الإرهاب، ورفع السرية عن أجزاء من تقرير للاستخبارات الأميركية يتّهم ضمناً ولي العهد السعودي بالمسؤولية عن قتل الصحافي جمال خاشقجي. كان الرئيس بايدن قد بدأ فعلاً تطبيق إستراتيجية احتواء الصين منذ لحظة انتخابه، وحتى قبل أن يصدر إستراتيجيته الجديدة للأمن القومي.
حَمَل هذا التجاهل السعودية والإمارات، التي ترتبط على نحو وثيق بالسياسات الأميركية، على البحث عن شركاء آخرين كروسيا والصين لتوثيق التعاون بهم، على الرّغم من تمسكهما بالشراكة مع واشنطن، فيما أتت الحرب الروسية الأوكرانية لتغيير الحسابات الأميركية.
بعد أن أثارت مواقف الدول الخليجية من العملية الروسية في أوكرانيا الدهشة لدى الغرب، امتنعت الإمارات في مجلس الأمن مرتين عن التصويت على قرار يدين روسيا، ورفضت السعودية طلب أميركا زيادة إنتاج النفط للحد من ارتفاع سعره وسط حياد سائر دول الخليج العربية. كثّفت إدارة بايدن على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، تواصلها مع الرياض وأبو ظبي لإقناعهما بزيادة إنتاج النفط لكبح ارتفاع الأسعار، لكنّ جهودها باءت بالفشل، وهي أرسلت إلى المملكة في منتصف أبريل/نيسان الماضي، مدير الاستخبارات الأميركية وليام بيرنز، الذي اجتمع بولي العهد السعودي في مدينة جدّة، وكذلك أجرى وفد أميركي كبير برئاسة نائبة بايدن زيارة لأبو ظبي للتعزية بوفاة رئيس دولة الإمارات الراحل، الشيخ خليفة بن زايد.
بالنسبة إلى الرياض وأبو ظبي لا تقتصر المشكلة على الموقف من روسيا وحسب، بل تتعلّق بصورة رئيسة بشكوك متزايدة لدى الحلفاء بالخليج في مستقبل الالتزام الأمني التاريخي بأمن المنطقة. لهذه الشكوك ما يُبررها.
أُعلنت زيارة بايدن للمنطقة في يوليو/تموز المقبل، ويلتقي فيها الملك السعودي، سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان. تهدف زيارة بايدن للسعودية إلى تعزيز العلاقات بالمملكة، وتأكيد دور الرياض كشريك إستراتيجي لواشنطن منذ ثمانية عقود. الحاجة لا تزال قائمة للحفاظ على القواعد، التي حكمت العلاقات بين الطرفين، لكن من هو الضامن، هذه المرة، لأمن الخليج في مقابل استمرار تدفّق النفط إلى الأسواق العالمية؟
لا شك في أن السعودية حاولت تنويع خياراتها الخارجية، لكنها مهتمة بالشراكة التقليدية مع الولايات المتحدة. حاولت تحسين العلاقات بخصوم إقليميين كتركيا وإيران، والدخول في شراكة مع "إسرائيل"، التي لا يُمكنها أن تحل مكان الدور الرئيس الذي يؤديه الوجود العسكري الأميركي في المنطقة في تعزيز أمن منطقة الخليج.
ستكون الرياض مستعدة لمنح واشنطن ما تريده في قضية النفط. لكن، هل من ضمانات أمنية لحماية المملكة ومنشآتها النفطية؟ ومن سيقدّم هذه الضمانات؟
سيحضر بايدن قمة مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى مصر والعراق والأردن، ويعرف المجلس هذا بـ(GCC + 3)، ويلتقي بايدن نظراءه من جميع أنحاء المنطقة لتعزيز الأمن والمصالح الاقتصادية والدبلوماسية للولايات المتحدة.
الزيارة بحد ذاتها تعكس تغيير بايدن نهجه تجاه المنطقة، وقادة المملكة من خلال الموافقة على زيادة إنتاج النفط، ما قد يساعد في ضبط أسعار الطاقة العالمية المرتفعة، وفي تمديد الهدنة في اليمن.
في يد الرئيس الأميركي ورقة الاعتراف بولي العهد ملكاً على السعودية، وهي الكلمة السحرية التي يقايض بها ولي العهد، إضافة إلى القبول بالمحاكمة، التي قامت بها السعودية لمسؤولين مفترضين عن مقتل الخاشقجي، وهذه أوراق مهمة، كما أن التعثّر الذي تواجهه المفاوضات مع إيران، والتكهنات بتراجع الأمل في الوصول إلى الاتفاق الذي صرّح به، روبيرت مالي، من دون أن ينعى الاتفاق، إضافة الى تردّد إدارة بايدن في رفع حرس الثورة الإيراني عن قائمة الإرهاب وتراجع نسب التفاؤل بإحراز الاتفاق مع اقتراب موعد التجديد النصفي للكونغرس، في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل وعدم استطاعة بايدن تقديم أي تنازل للإيرانيين.. جميعها أوراق تريح السعودية وبعض دول الخليج، التي تخشى العودة الاقتصادية والسياسية الإيرانية، وهي رأت أن عدم مفاوضة الولايات المتحدة إيران في مسألة صواريخها البالستية، ونفوذها في المنطقة يزيد من سطوتها.
الحرب الروسية الأوكرانية غيّرت حسابات واشنطن واستعداداتها، وأجبرتها على مراجعة سياستها في المنطقة من أجل ضمان استقرار بلادها، التي تواجه تضخماً وفورة في أسعار النفط بعد أن كانت تتفاخر في عدم حاجتها إلى نفط الخليج. ولا شكّ في أن سياسات الولايات المتحدة تحمل في هذه الفترة عنواناً رئيساً هو "الحاجة أم الاختراع " في ظل الجهود للتغلّب على حاجة الأوروبيين إلى النفط والغاز الروسي .