الورطة الفرنسية.. هل وقع ماكرون في شِبَاك المِصْيدة الإنكليزية؟
الخيارات الفرنسية باتت تضيق في وجه بريطانيا. تدخَّلت المفوضية الأوروبية لحل أزمة الصيد البحري خلال قمة المناخ، ولم تصطفَّ إلى الجانب الفرنسي.
حرب كلامية بين باريس ولندن بشأن الصيد البحري. اتهامات متبادلة بين الجارتين اللدودتين، تمحورت حول مخالفة اتفاقية "البريكست". وعلى الرَّغم من أن الصيد البحري لا يمثّل قيمة اقتصادية كبيرة لكِلا البلدين، فإن الخلاف المستجدّ يعكس صدى لخلاف أعمق يتمثّل بالتاريخ و"البريكست"، وصولاً إلى أزمة الغواصات النووية.
التصعيد الفرنسي
افتعل الرئيس الفرنسي حرباً كلامية مع لندن. تدرّج التصعيد الفرنسي من التنبيه، إلى التحذير، ثم التهديد بفرض عقوبات ضد المملكة المتحدة. أمهل ماكرون الإنكليز حتى الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر من أجل منح الصيادين الفرنسيين تراخيصَ صيد في المياه الإقليمية البريطانية. كما لوَّحت باريس بعقوبات قاسية في حال لم تمتثل لندن لتهديداتها. وتمثَّلت العقوبات بتكثيف عمليات التفتيش الحدودية، ومنع قوارب الصيد البريطانية من دخول موانئ فرنسية معيَّنة، فضلاً عن تهديدها بإعادة النظر في إمدادات الكهرباء إلى الأراضي البريطانية. عقوبات لا يرى صيّادو الأسماك في المملكة المتحدة أي جدوىً منها، لأن عدداً قليلاً من السفن البريطانية يرسو في الموانئ الفرنسية، بينما يوجد عدد كبير من الصيادين الفرنسيين في المياه البريطانية. لكن أوراق الضغط الفرنسية الأخرى قد تكون مؤلمة لبريطانيا، وقد تزيد في أزمات إضافية لها، في ظل تفاقم أزمتي التوريد والطاقة، وخصوصاً مع اقتراب عيدَي الميلاد ورأس السنة.
تعاملت حكومة جونسون بداية مع التصعيد الفرنسي بهدوء، لكن جدية التهديدات، وخصوصاً عند احتجاز قارب صيد إنكليزي، دفعتها إلى اتخاذ خطوات تصعيدية. تقول لندن إن التهديدات الفرنسية غير مبرَّرة، ولا تستحق كل هذا التصعيد، مشيرة إلى التزامها اتفاقية "البريكست". وأكدت السلطات البريطانية منحها تراخيص لنحو 1673 رخصة للصيادين الأوروبيين، أي نحو ثمانية وتسعين في المئة من الطلبات المقدَّمة للحصول على تراخيص صيد، منذ بداية العام الحالي، لكنها رفضت طلبات تراخيص صيد لمئتي قارب أوروبي، أغلبيتها تعود إلى الفرنسيين، بسبب عدم تقديمهم بيانات تُثْبِت، ولو مرة واحدة في السنة، قيامهم بالصيد قبل "البريكست" داخل المياه الإقليمية البريطانية. صيادو السمك الفرنسيون امتعضوا من الإجراءات البريطانية، لأنهم دَرَجوا على ممارسة صيد أنواع معينة من الأسماك في المياه الإقليمية البريطانية، بينما البريطانيون يصطادون أنواعاً أخرى من الأسماك، وغير متوافرة في المياه البريطانية.
الشروط البريطانية المضادة
استدعت الخارجية البريطانية السفيرة الفرنسية في لندن، كاثرين كولونا، احتجاجاً على التهديدات الفرنسية. وإن كان الاستدعاء مدروساً، بحيث اكتُفِيَ بلقاء جمع السفيرة الفرنسية ووزيرَ الشؤون الأوروبية، من دون لقائها وزيرةَ الخارجية البريطانية ليز تروس، لكنه يعبّر عن غضب بريطاني تجاه باريس. حكومة جونسون لديها حساباتها الخاصة، إذ لا تريد أن يطغى التحدي الفرنسي على قمة المناخ المنعقدة في غلاسكو. ومع دخول موعد تطبيق العقوبات الفرنسية حيزَ التنفيذ في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر، بدّلت لندن مقاربتها للأزمة، معتمدةً خيار"العين بالعين والسِّنّ بالسِّنّ".
كانت الأجواء توحي بأن الحرب الكلامية ستضع أوزارها في لقاء يجمع الزعيمين الفرنسي والبريطاني، على هامش قمة العشرين في روما. لم يظهر الدخان الأبيض من لقاء الزعيمين الذي استمرّ نحو خمس وعشرين دقيقة. واشتعلت بعده حرب البيانات مجدَّداً، في إثر نفي "الداونينغ ستريت" بيانَ "الإليزيه"، الذي أشار إلى أن "ماكرون وجونسون اتفقا على العمل على خفض التصعيد بشأن الخلاف الذي تفاقَمَ مؤخَّراً بشأن الصيد البحري". وطالبت لندن بسحب التهديدات الفرنسية قبل إجراء أيّ محادثات، وهدَّدت أيضاً بتعزيز عمليات التفتيش لسفن الصيد الأوروبية في المياه البريطانية. ومنحت وزيرةُ الخارجية الفرنسيين مهلةَ ثمانٍ وأربعين ساعة من أجل سحب التهديدات، محذِّرة، للمرة الأولى، من لجوء بلادها إلى إجراءات قانونية، تتمثَّل باستخدام آلية تسوية الخلافات التي نصّ عليها اتفاق "البريكست".
تدخُّل أوروبي وتراجع فرنسي
يبدو واضحاً أن التصعيد الفرنسي مع بريطانيا لم يَجْرِ وفق التوقيت الأوروبي. فالمفاوضات الجارية بشأن أيرلندا الشمالية مع لندن حساسة جداً، في ظل تقارير تشير إلى نيّاتٍ بريطانية من أجل السعي للمواجهة مع بروكسل فور انتهاء قمة المناخ، فضلاً عن استعدادات لاستخدام المادة 16 من البرتوكول الخاص باتفاقية "البريكست"، والمعنية بالترتيبات الجمركية في أيرلندا الشمالية.
كما أن خيار حكومة جونسون بشأن استخدام الإجراءات القانونية في وجه باريس، قد يترتّب عليه دفع تعويضات مالية لبريطانيا، وظهور فرنسا في صورة المخالفة للاتفاقيات الدولية. وهذا عكس ما كان يسعى إليه دائماً ماكرون بشأن وضع لندن أمام اختبار "عدم إيفاء لندن بالتزاماتها، لأنه يضر سمعتها وصدقيتها بشأن التزام الاتفاقيات الدولية حول العالم".
الخيارات الفرنسية باتت تضيق في وجه بريطانيا. تدخَّلت المفوضية الأوروبية لحل أزمة الصيد البحري خلال قمة المناخ، ولم تصطفَّ إلى الجانب الفرنسي في حرب الصيد البحري.
أدرك ماكرون بعدها أنه لا يمكن "فرض عقوبات في أثناء المحادثات"، كما صرّح خلال مؤتمر المناخ في غلاسكو، فقرّر تأجيل العقوبات من أجل إعطاء فرصة للمحادثات مع لندن، وذلك قبل ساعات من تطبيق العقوبات الفرنسية. رحَّبت "الداونينغ ستريت" بالتراجع الفرنسي، مبديةً استعدادها لمحادثات معمَّقة في الموضوع.
تلبية سيد "الإليزيه" الشروطَ البريطانية، عبر سَحب التهديدات، عزَّزت صورة جونسون لدى البريطانيين، وهذا ما عكسه بعض الصحف البريطانية، عبر الإشادة بوقوفه في وجه التهديدات الفرنسية. كما أعادت أيضاً إلى أذهان الإنكليز صورة أمجاد بلادهم في انتصارها على نايليون في معركة وترلو. لا شكّ في أن جونسون حقق انتصاراً من خلال إعادة فتح جرح "البريكست" من جديد، لأنه أكسبه قوة في إعادة التماسك الداخلي في ظل تراجع شعبيته جراء أزمة "كورونا" وتداعياتها الاقتصادية. كما عزَّزت معركةُ الصيد البحري روايةَ المحافظين بشأن ملف "البريكست"، مستندين إلى ما جاء في الرسالة المسرَّبة من رئيس وزراء فرنسا إلى رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسلا فاندرلاين، والتي يؤكد فيها ضرورة معاقبة بريطانيا بسبب خروجها من الاتحاد الأوروبي.