الهند.. الاستقلال الاستراتيجي والتعددية في التحالفات
تقارب روسيا والهند ينهي فكرة "تبعية موسكو للصين" التي سعت الدول الغربية للترويج لها، كما أنه يزيد قلق الدول الغربية الراغبة في انضمام الهند إلى المعسكر المعادي لموسكو.
لم يكن مستغرباً أن تكون موسكو القبلة الأولى لرئيس الوزراء الهندي مودي بعد انتخابه لولاية ثالثة، نظراً إلى تطور العلاقات بين البلدين وتناميها بشكل مطرد.
زيارة مودي إلى روسيا هي الأولى له منذ 5 سنوات، كما أن القمة التي جمعته بالرئيس بوتين كانت الأولى بين الزعيمين منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
الدور المتنامي للهند في الساحة الدولية جعل القوى الكبرى تسعى لاستمالتها والعمل على تطوير العلاقات معها، وفقاً لتصورات تلك الدول وأهدافها من العلاقة مع نيودلهي.
العلاقات بين البلدين استراتيجية وراسخة ومتطورة باستمرار، وهو ما حتم على الهند اتباع سلوك محايد من الحرب في أوكرانيا، رغم علاقات نيودلهي المتطورة مع الغرب عموماً، والولايات المتحدة وأكرانيا على وجه خاص.
لم تنتقد الهند "الغزو الروسي" لأوكرانيا، بل كانت حريصة على أداء دور "الحياد الإيجابي"، ما جعل موقفها قريباً إلى حد كبير من الموقف الصيني.
حياد الهند لم يجعلها محط انتقاد من واشنطن، على عكس الانتقادات الأميركية للصين والاتهامات التي دأبت واشنطن على توجيهها إلى بكين بذريعة تقديمها الدعم العسكري لموسكو.
نجاحات روسيا في الحرب في أوكرانيا، وقدرتها على تحدي العقوبات الغربية، والنمو الذي حققه الاقتصاد الروسي، جعل العديد من دول العالم تسعى للتقارب معها، وكانت الهند في مقدمة تلك الدول.
حاجة الهند إلى موسكو تتعدى الجوانب السياسية والاقتصادية لتصل إلى التعاون العسكري بين البلدين، وخصوصاً أن 60% من السلاح الذي يستخدمه الجيش الهندي هو صناعة روسية.
الهند هي أكبر مشترٍ للسلاح الروسي، إذ تستورد نحو 34% من الصادرات الروسية من السلاح. كما أن روسيا هي الدولة الوحيدة التي تبني مفاعلات نووية في الهند، إذ جرى عام 2023 التوقيع على بناء 6 مفاعلات نووية جديدة.
واردات الهند من الأسلحة الروسية تراجعت بشكل كبير منذ بدء الحرب في أوكرانيا، وهو ما يقلق نيودلهي ويدفعها إلى البحث عن مصدر جديد لحاجتها من السلاح.
لم تلتزم الهند بالعقوبات الغربية على موسكو، بل سعت للاستفادة منها في الحصول على تسهيلات قدمتها لها روسيا، ما عزز أرباحها الاقتصادية.
موسكو رابع أكبر شريك تجاري للهند عام 2024، إذ تستورد الهند 40% من النفط الروسي، ليس فقط لاستخدامه محلياً، فقد عملت على بيعه للعديد من الدول الأوروبية مقابل أرباح كبيرة حققتها.
بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 50 مليار دولار عام 2022، وازداد عام 2023 ليصل إلى 65.7 مليار دولار.
كفة الميزان التجاري ترجح إلى مصلحة موسكو وبشكل كبير، إذ شكلت صادرات موسكو للهند في الفترة (منذ نيسان 2023 إلى آذار 2024) أكثر من 60 مليار دولار، فيما لم تتجاوز الصادرات الهندية إلى موسكو 4 مليار دولار في الفترة ذاتها.
حل مشكلة العجز في الميزان التجاري بين البلدين كانت على جدول أعمال الرئيسين، واتفق الجانبان على أن تقوم الهند بتصدير بعض المنتجات الزراعية وقطع غيار الطيارات التي تحتاجها موسكو بسبب العقوبات التي فرضت عليها وسوى ذلك من المنتجات الهندية.
استفادت الهند من مرونة موسكو في التداول بالعملات الوطنية بعيداً عن هيمنة الدولار، وهو ما أسهم في تعزيز الطلب على الروبية الهندية، وبالتالي تحسين قيمتها.
الولايات المتحدة الأميركية بحاجة إلى نيودلهي، فتفعيل الهند يندرج ضمن الخطة الأميركية لاحتواء الصين، والعمل على أن تكون الهند بديلاً منها.
احتواء الصين وروسيا جعل الولايات المتحدة والدول الغربية تغض النظر عن النمو الهندي، وهو ما شكل فرصة كبيرة بالنسبة إلى الهند.
التمدد الصيني ومبادرة الحزام والطريق وإقبال العديد من دول العالم على التوقيع عليها جعل الولايات المتحدة تفكر في مشروع بديل للمشروع الصيني، فطرح الرئيس بايدن في العام الماضي خلال قمة العشرين "الممر الهندي".
الهدف من الممر الهندي هو توسيع التعاون بين الهند ودول الشرق الأوسط، وصولاً إلى الأسواق الأوربية، إذ كان من أولى نتائج هذا المشروع انسحاب إيطاليا من مبادرة الحزام والطريق.
الهند.. سياسة مسك العصا من المنتصف
تاريخياً، قادت الهند مبادرة عدم الانحياز، وسعت إلى تجنب الانجرار في صراعات القوى العظمى. وقد أثبتت الأيام نجاعة تلك السياسة وأهميتها.
نجحت الهند خلال العقدين الأخيرين في الاستفادة من تناقضات العلاقات الدولية واللعب على الحبال سعياً منها لتعزيز قوتها ومناعتها الاستراتيجية.
الهند عضو في العديد من التحالفات الأمنية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وخصوصاً تحالف "كواد"، لكنها في الوقت نفسه جزء من تحالف البريكس الذي يعد تكتلاً اقتصادياً في مواجهة مجموعة السبع التي تقودها الولايات المتحدة.
تسعى الولايات المتحدة للترويج للهند، وتصفها بأنها "أكبر ديمقراطية في العالم"، باعتبارها الدولة الأولى من حيث عدد السكان، بعدما تجاوز عدد سكانها عدد سكان الصين.
فضلت الهند الابتعاد ما أمكن عن الخلافات بين الغرب وكل من روسيا والصين، وسعت لاتباع "سياسة الانتظار الإيجابي"، ومن ثم التعامل مع "المنتصر الضعيف"، إذا ما حدثت حرب بين المعسكرين.
تغض الولايات المتحدة النظر عن مساعي الهند للتعاون مع موسكو، انطلاقاً من حاجتها إلى التعاون معها، ولأنها عاجزة عن تقديم ما تقدمه موسكو للهند.
من الواضح أن الولايات المتحدة لم تستطع جعل الهند أو الصين يقللان علاقتهما مع موسكو بسبب الحرب في أوكرانيا، بل كانت النتائج عكسية، إذ تطورت علاقات موسكو مع تلك الدولتين.
سياسياً، تسعى الهند للحصول على عضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي، وهو المطلب الذي تدعمه موسكو، وفقاً لما قاله وزير الخارجية الروسي لافروف.
على الصعيد الدولي، أعلن البلدان موقفهما الداعي إلى إنشاء دولة مستقلة في أفغانستان ووقف إطلاق النار في قطاع غزة، ودعمهما لمبدأ حل الدولتين.
التقارب الروسي الهندي يقلق جميع الأطراف، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وأوكرانيا، كما أنه لن يكون مريحاً بالنسبة إلى الصين التي لديها خلافات حدودية مجمدة مع كلتا الدولتين.
تعاظم الحضور الهندي والروسي في منطقة الشرق الأوسط لن يكون مريحاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي تنظر إلى هذه المنطقة باعتبارها منطقة نفوذ تاريخي لها. كما أنه لن يكون مريحاً لبكين التي تسعى لزيادة حضورها وشراكاتها مع دول المنطقة.
تقارب روسيا والهند ينهي فكرة "تبعية موسكو للصين" التي سعت الدول الغربية للترويج لها، كما أنه يزيد قلق الدول الغربية الراغبة في انضمام الهند إلى المعسكر المعادي لموسكو.
تبدو الهند أيديولوجياً وسياسياً أقرب إلى المعسكر الغربي، لكن مصالحها الاقتصادية مع كل من روسيا والصين أكبر بكثير. لذا، فإنها تجد نفسها مضطرة إلى خلق حالة من المواءمة في توجهاتها وسياساتها بين المعسكرين.
من المؤكد أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين شعروا بخيبة أمل كبيرة وهم يرون "زعيم أكبر ديمقراطية في العالم" (مودي) يعانق بوتين الذي يعد "أكثر المجرمين دموية" وفقاً لتصوراتهم.