العين على فيينا.. والعقل في أفغانستان
البرودة في تعاطي الأميركي في ملف مثل البرنامج النووي الإيراني ليس إلا تعمية عن موضوع رئيسي هو موضوع غزو ثروات أفغانستان الطبيعية.
ينشغل العالم اليوم بمفاوضات فيينا التي يتمّ فيها التباحث حول ملف إيران النووي بين الدول المفاوضة وإيران. وفي الكواليس، هناك الإسرائيلي الذي ينظر إلى تلك المفاوضات بحذر وترقّب. تخرج التقارير والتحاليل متحدثةً عن تلك المفاوضات، وعن المنتصر والمهزوم فيها، وهناك من يذهب أبعد في التحليل، ليربط مصير دول المنطقة بنجاحها أو فشلها.
إنّ أهمية المفاوضات هناك تكمن في تسليط الضوء على المسودة التي سيؤخذ بها لنجاح التفاوض. وقد ذكرت وسائل إعلام رسمية إيرانية بعد اللقاء الأخير الذي حصل، أن طهران قدمت للقوى الأوروبية المشاركة في الاتفاق النووي المبرم في العام 2015 مسودتين بشأن رفع العقوبات والالتزامات النووية، في دلالة على حسن نيتها لإيجاد مخرج لها.
في المقابل، يصدم الأميركي المتابعين، على لسان وزير خارجيته أنتوني بلينكن، في تصريحه خلال اجتماع في ستوكهولم: "المؤشرات لا تبعث على التفاؤل، وواشنطن لن تقبل بالأمر الواقع الذي تريد إيران فرضه في ما يخص الاتفاق النووي".
خرج الأميركي وحيداً من الاتفاق النووي الذي جرى الاتفاق عليه في العام 2015، ما أعاد الأمور إلى مرحلة التعقيد، ووضع المنطقة من جديد على فوهة بركان، في محاولة لفرض كل فريق أوراق قوة في الميدان، كي يعيد المفاوضات بما يتناسب مع مصالح دولته القومية، إذ يرى المتابعون أن مجرد إقدام الإيراني على طرح مسودتين لتشكيل خارطة طريق تخرج الاتفاق من عنق الزجاجة هو دليل على مدى الأوراق الرابحة في يد إيران، لتفاوض بها الأميركي، وتخيف شريكه الإسرائيلي في المنطقة. لهذا، قدّم وفدها مسودتين، وهو ما لم يكن ممكناً في مفاوضات العام 2015.
صحيح أن الإيراني اليوم بات أقوى في التفاوض، إذ لم تستطع عقوبات أميركا الاقتصادية وعمليات "إسرائيل" السيبرانية والأمنية تعطيل التخصيب في مفاعيل إيران النووية، إلّا أن الأميركي يتعمّد العرقلة في إيصال الملف إلى خواتيمه النهائية، فهو لن يقدم على التنازل في موضوع رفع العقوبات، الذي يعد شرط إيران الرئيسي لإنجاح التفاوض، رغم القلق الذي تعيشه "إسرائيل"، والتي تهدّد يومياً، وعلى لسان قادتها الأمنيين والسياسيين، بشنّ حرب شاملة ما لم تصل إيران إلى وقف برنامجها النووي.
هذه البرودة في تعاطي الأميركي في ملف حساس ورئيسي، مثل البرنامج النووي الإيراني ليس إلا تعمية عن موضوع رئيسي تعمل عليه الولايات المتحدة الأميركية بالسرّ، هو موضوع غزو ثروات أفغانستان الطبيعية.
لهذا، ستبقى العين على الملف النووي الإيراني، وستبقى حالة اللاتفاهم قائمة، وحثّ الإيراني على استنزاف قدراته في المنطقة كي يتمكن من كسب أوراق جديدة يأمل من خلالها الوصول إلى تفاوض أقوى لرفع العقوبات، لأن عقل الأميركي ليس على هذا الملف الذي أصبح ثانوياً لدى الإدارة الأميركية، بل على التسابق للوصول إلى ثروات بلاد خرجت منها أميركا بحنكة، لتعود إليها من البوابة الاستثمارية هذه المرة، وليس العسكرية، فكما يبدو يمكنها توفير الكلفة المادية الباهظة لنشر العسكر الأميركي في منطقة جبلية وعرة، من خلال اتفاق ضمني مع حركة "طالبان"، فهل أدارت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن اللعبة بحنكة فعلاً، من خلال تسليم السلطة لحركة "طالبان"، في مقابل أن تتسلّم الثروات المعدنية النادرة في هذه البلاد؟
ترتكز خطة بايدن على سياسة الإلهاء التي طرحها المفكّر الأميركي نعوم تشومسكي، الذي ذكر في تحليله لها أنَّ "العنصر المهيمن للرقابة الاجتماعية هو استراتيجية الإلهاء، لتحويل انتباه الجمهور عن القضايا المهمة والتغييرات الحاسمة، من خلال تقنية الطوفان أو غمر المشتتات المستمرة والمعلومات غير المهمة"، فهل تعتمد الإدارة الأميركية على هذه الاستراتيجية في مفاوضات إيران لتشتّت الانتباه عما تفعله في أفغانستان؟
ذكر موقع "أويل برايس" الأميركي حول ثروات أفغانستان الطبيعية "أنَّ قيمة الموارد المعدنية غير المستغلة في أفغانستان قُدِّرت بنحو تريليون دولار أميركي منذ سنوات، وذلك بحسب إحصاءات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، فجبال أفغانستان تحتوي مجموعة واسعة من الثروات الباطنية، بما في ذلك النحاس، والذهب، والنفط، والغاز الطبيعي، واليورانيوم، والبوكسيت، والفحم، وخام الحديد، والمعادن النادرة، والليثيوم، والكروم، والرصاص، والزنك، والأحجار الكريمة، والتالك، والكبريت، والجبس، والرخام".
تعتبر إدارة بايدن أنَّ الولايات المتحدة أنفقت المليارات في هذا البلد، إلا أنَّها فشلت في تشكيل إدارة حكم ذاتي قادرة على ضبط الأمن. من هنا، كان الدافع لإعادة قراءة تحالفاتها مع حركة "طالبان" باتفاقيات سرية، كما يبدو، ترتكز على الحكم مقابل الثروات. هذا ما يفسّر الانسحاب الأميركي العسكري المفاجئ من هذه البلاد، وترك أسلحة أميركية وقعت بيد هذه الحركة، وقُدّرت بمليارات الدولارات من ناحية كميتها ونوعيتها.
ليس هذا فحسب، ولكنَّ الأميركي كان يهدف أيضاً من خلال تمكين "طالبان" من استلام السلطة إلى خلق حالة من الفوضى في آسيا الوسطى، ما يعرقل جهود أعدائها، ويخلق خاصرة رخوة لهم في هذه الرقعة من العالم. إنَّ ما حصل على الحدود الإيرانية الأفغانية قد ينظر إليه البعض بعين الاستخفاف والخلافات الحدودية البسيطة، إلا أنَّ للبعض الآخر تحليلاً مخالفاً يرتكز على أنه بداية لأزمات منتظرة.
أخيراً، قد تكون العين جاحظة إلى مفاوضات فيينا، التي يراها البعض مفتاح حلول للمنطقة، ولكن المؤكّد أنَّ العقل الأميركي سيعمل على استراتيجية الإلهاء والتعطيل، لتمرير المزيد من الوقت في سبيل تمكّن شركاته العملاقة من البدء بالاستثمار وباستخراج ثروات أفغانستان الطبيعية.