العقيدة الأمنية الروسية تتغير... ماذا عن النووي؟
أدّت الظروف المحيطة بروسيا إلى فهم جديد للتهديدات لأمنها، وخصوصاً ما حدث في أوكرانيا، من تحولات سياسية وضمّ القرم ونشوب معارك الشرق الأوكراني.
على الرغم من كل التغييرات الجذرية، التي طرأت على استراتيجية الأمن القومي الروسية، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ولغاية انخراط روسيا في الحرب في أوكرانيا، أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في لقائه الأخير في نادي فالداي في سوتشي، أن روسيا ليس لديها خطط لتغيير عقيدتها النووية، وهي السياسة التي تحدد الظروف التي قد تستخدم فيها قواتها الأسلحة النووية، مؤكداً أن وجود الدولة الروسية ليس مهدَّداً حالياً، ولن يفكر "أي شخص سليم العقل ولديه ذاكرة واضحة" في توجيه ضربة نووية ضدها.
وعلى الرغم من أن الروس لا يملكون في عقيدتهم الاستراتيجية مبدأ "الضربة الوقائية"، التي نجدها لدى الأميركيين، حتى في الاستخدامات النووية، فإن بوتين هدّد مراراً بالتخلي عن مبدأ "الضربة الانتقامية" الواردة في تلك العقيدة، والتي تتيح استخدام السلاح النووي فقط رداً على تهديد نووي، أو إطلاق صواريخ نووية في اتجاه روسيا، لكنها لا تستبعد الاستخدام الأول رداً على هجوم تقليدي يهدد وجود الدولة الروسية.
بدأت صياغة استراتيجية الأمن القومي الروسية (العلنية على الأقل) في أواخر الحقبة السوفياتية، لكنها لم تكتمل بسبب التغيرات السريعة في البيئة الدولية والتباين بين مجموعات الحكم بشأن مفهوم التهديدات والفرص وسواها ضمن المشهد العالمي المستجد.
وانعكس هذا الفشل في التوصل إلى توافق في الآراء، بشأن المفهوم الأمني، على القدرة على صياغة العقيدة العسكرية، ومبادئ السياسة الخارجية، والتي من المنطقي أن تكون مبنية على التصور الأمني.
بعد الاتحاد السوفياتي، حاولت روسيا الاتحادية أن تقدم استراتيجية واضحة للأمن القومي، فكانت الفترة التأسيسية الأولى (1991- 1993)، بحيث تمّ اعتماد أولى تلك الوثائق. وتميّزت الفترة الثانية (1994-1999) بمحاولات لتحديد مفاهيم الأمن القومي بصورة أكثر دقة (من ناحية)، ووضع استراتيجية أمنية وطنية أكثر تماسكاً وتكاملاً (من ناحية أخرى)، انعكست في وثيقة الأمن القومي الاولى عام 1997.
وفي بداية عام 2000، تمّ التوقيع على مرسوم التعديلات على وثيقة عام 1997، من جانب فلاديمير بوتين، الذي كان في ذلك الوقت قائماً بأعمال رئيس الاتحاد الروسي.
وفي الفترة الثالثة (2001-2006)، أعادت روسيا تقويم استراتيجيتها للأمن القومي بعد أن تبدّلت النظرة الى التهديدات، وخصوصاً بعد حرب الشيشان الثانية، وتدخل الناتو عسكرياً في كوسوفو، وتوسيع الناتو شرقاً، والثورات الملونة في حديقتها الخلفية، والحروب في أفغانستان والعراق... إلخ.
ونتيجة لتلك التقويمات، أظهرت وثائق الفترة الرابعة (2007-2015) التشدد الروسي في الخارج "القريب" والخارج "البعيد"، وتنامى شعور القلق والعداء للناتو والولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من حصول بعض التقارب بين موسكو وواشنطن خلال فترة ميدفيديف وإعلان أوباما سياسة مغايرة بشأن روسيا، عنوانها "إعادة التشغيل" (reset).
وفي اجتماع لمجلس الدولة الروسي في أيلول/سبتمبر 2008، أعلن الرئيس الروسي آنذاك، ديمتري ميدفيديف، الحاجة إلى تطوير استراتيجية جديدة، في معرض مناقشة "الصراع في أوسيتيا الجنوبية". ونتيجة لذلك، تمت الموافقة، في أيار/مايو 2009، على استراتيجية الأمن القومي للاتحاد الروسي، والتي كان من المفترض أن تكون صالحة لغاية عام 2020.
أدّت الظروف المحيطة بروسيا إلى فهم جديد للتهديدات لأمنها، وخصوصاً ما حدث في أوكرانيا من تحولات سياسية وضمّ القرم ونشوب معارك الشرق الأوكراني، وانخراط الروس مباشرة في أوكرانيا. خلقت هذه الأحداث واقعاً جديداً تماماً، أدى أيضاً إلى توتر العلاقات بين روسيا والغرب، وهو ما انعكس في النهاية على اللهجة الصارمة تجاه الغرب في استراتيجية الأمن القومي، عام 2015.
في الفترة الخامسة (2014-2021)، تأثرت وثائق السياسة الروسية بالتطورات في أوكرانيا، والحرب في سوريا، والتصعيد الأوروبي والأميركي، وسباق التسلح وغيرها، الأمر الذي فرض مراجعة جدية وإعادة نظر في تصورات التهديدات والأولويات الإقليمية لمواجهة التحديات الأمنية الجديدة.
وفي 2 حزيران/يونيو 2021، تمت الموافقة على استراتيجية الأمن القومي الجديدة للاتحاد الروسي. وعلى الرغم من أن أغلبية أدبيات الوثيقة هذه تطابقت مع وثيقة عام 2015، وخصوصاً بشأن العمل على تشكيل نظام متعدد الاقطاب، فإن وثيقة عام 2021 أتت خالية من أي ذكر للتعاون مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
وبمقارنة بين استراتيجية عام 2015 واستراتيجية عام 2021، نجد أن روسيا دعمت التعاون والمنفعة المتبادلة وبناء الشراكات مع الاوروبيين والولايات المتحدة الأميركية في الأولى، لكن هذه البنود اختفت كلياً من الوثيقة الثانية، بصورة أوحت في أن روسيا ليست مستعدة لتقديم أي تنازلات من أجل علاقات جيدة بالغرب.
وفي تلك الاستراتيجية الأخيرة (2021)، تمّ ذكر الشركات عبر الوطنية في سياق سلبي جداً في عدد من المجالات. فعلى سبيل المثال، هي متَّهَمة بتقييد دور الدولة (ص 3)، واحتكار الإنترنت (ص 19)، ومهاجمة القيم الروحية والأخلاقية والثقافية والتاريخية الروسية (ص37).
بناءً عليه، وبالعودة الى العقيدة النووية، وعلى الرغم من تأكيد بوتين أن ليس هناك أي خطط لتغيير العقيدة النووية في الوقت الحالي، فإن الانتشار النووي، الذي بدأته روسيا هذا العام بعد أن نشرت أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، وهي المرة الأولى التي تنشر فيها روسيا أسلحة نووية خارج البلاد، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وبعد أن أعلن بوتين مراراً أن الروس قد يعمدون الى "تقليد" الولايات المتحدة في العقيدة النووية، يقف العالم على مفترق طرق، فإما تشهد البشرية صراعاً نووياً تُستخدم فيه الأسلحة النووية التكتيكية، وإمّا يكون كلام بوتين حافزاً على عودة العالم الى سياسة الردع النووي، وهي السياسة التي منعت حرباً مباشرة بين القطبين خلال الحرب الباردة، وهو السيناريو الأرجح حالياً.