العبث بتوازنات شرق أوروبا.. مخطط غربي يستهدف روسيا
لقد كان واضحاً للاتحاد الأوروبي أن أي خطوة متسرعة لضم كوسوفو إلى الاتحاد ستترك تأثيراً سلبياً على الأمن والسلم الإقليميين في البلقان.
لم يكن الاستفتاء الذي شرّع عودة جزء من أراضي الدولة الأوكرانية إلى روسيا محصوراً في نتائجه ضمن تغييرات تطال الدولة الأوكرانية لناحية فقدانها نحو20 % من مساحتها، إذ إن دول الاتحاد الأوروبي، ومن خلفها الولايات المتحدة قد تنبهت لضرورة إعادة قراءة مجموعة من المتغيرات، التي أفرزتها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، مع يقين بعدم إمكانية ضمان ثبات الحدود التي أفرزتها مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وإذا عدنا إلى المرحلة التي بدأت مع انهيار الاتحاد السوفياتي، فإن جملة من التفاعلات الدولية قد أرخت بظلالها على الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي، إذ وقعت في فخ إسقاط أنظمتها الحليفة لموسكو، أو في فخ التقسيم كما حدث ليوغسلافيا التي بدأت تتفكك حتى وصل عدد أجزائها إلى سبعة، من ضمنها صربيا وإقليم كوسوفو.
أرادت القوى الغربية لمرحلة ما بعد الشيوعية أن تكون موسومة بنهاية فكرة الحرب الباردة بين نماذج مختلفة من الأنظمة المبنية على قيم مختلفة، إذ عمدت إلى تعميم نموذجها الثقافي والسياسي كمرشد تسعى الدول الشيوعية السابقة إلى التماثل به، وفق منطق يفترض في تطبيق هذا النموذج شهادة تضمن لهذه الدول رضى̎ "غربيا"̎ ، يمكنها من تخطي أزماتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي عصفت بها بعد الانهيار السوفياتي.
وإذا كان الغرب قد رفع في وجه الاتحاد السوفياتي بطاقة حق الشعوب في تقرير مصيرها كأداة يهدف من خلالها إلى تشجيع الدول المنضوية تحت جناح الكونفدرالية السوفياتية إلى الانفصال، فإن الانفجارات الإثنية التي عصفت في شرق أوروبا لم تكن ضمن النتائج التي توخاها من هذه الاستراتيجية. ونتيجة للشعور الإثني والعرقي الذي طغى على واقع العلاقات في أوروبا الشرقية، في تلك المرحلة، تفاقمت النزاعات الحدودية، وتحولت إلى صراعات دموية، استغلتها الولايات المتحدة الأميركية في عملية إخضاع القارة الأوروبية وضمان عدم تحول الاتحاد الأوروبي إلى قوة عسكرية قادرة على أن تحل مكان حلف شمال الأطلسي.
في هذا الإطار، لم يكن الموقف الأوروبي متوافقاً مع الموقف الأميركي لناحية إيقاظ الشعور القومي والإثني وفق السيناريو الذي طغى في تلك المرحلة. فالغاية الأميركية من تغذية هذا الواقع لم تكن متوافقة مع الرؤية الأوروبية، التي أرادت من حق الشعوب المنضوية في الاتحاد السوفياتي في تقرير مصيرها فرصة للتخلص من الخطر المتكتل في الشرق عبر تفتيته، على أن يكون الاتحاد الأوروبي قادراً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي على ضبط إيقاعه بحيث لا تستمر مفاعيله أو تتمدد لتطال دول الاتحاد نفسه.
لقد كان واضحاً أن التناقض بين الطرفين الأميركي والأوروبي قد استقر في تلك المرحلة وفق السياق الذي أرادته الولايات المتحدة الأميركية. فالحروب الطاحنة التي شهدتها دول البلقان في تسعينيات القرن العشرين أدت، بالإضافة إلى الترسيم الصارم للحدود بين الإثنيات، إلى تكريس شكل متطرف من النظام الإقليمي الذي تتداخل في طياته توترات إثنية مع مفهوم متطرف للسيادة الوطنية. وإذا تمت مقارنة ذلك الواقع مع مسار الاتحاد الأوروبي الذي يهدف إلى التكامل والاندماج بين دوله من خلال التخفيف من آثار الحدود ومفاعيل السيادة الوطنية، ومن خلال التقليل من الفوارق المجتمعية التي كانت سبباً مباشراً لاشتعال الحروب الطاحنة التي عصفت بالقارة الأوروبية، فمن الممكن توصيف تلك المرحلة في تاريخ أوروبا بأنها الأكثر تهديداً للتضامن المجتمعي بين بلدانها، إذ إن التكامل والاندماج بين الدول الأوروبية واجهتهما معوقات ترتبط بضرورة الالتزام باستيعاب تلك الكيانات التي اعتمدت على التطهير العرقي كوسيلة لتحقيق طموحها في التحول إلى دول ذات سيادة.
لمواجهة هذه المعضلة، تبنى الاتحاد الأوروبي سياسة الانفتاح على تلك الدول، عبر محاولة الحد من جنوحها نحو تبني حلول التطهير العرقي بمختلف الوسائل، ومنها العسكرية كسبيل لترسيخ وجودها. ففي حين ترى الدول الأوروبية أن السبيل لتوحدها ضمن مؤسسة الاتحاد الأوروبي يكمن في التسويق للازدهار ولفكرة القيم المشتركة، وبالتالي إبعاد شبح الحرب عن القارة الأوروبية، إذ إن الانفتاح على دول البلقان لم يكن كافياً لتحقيق هذا الهدف حيث إن بعض كياناته عادت لترى في الدولة الروسية ملاذاً آمناً قادراً على انتشالها من أزماتها، التي لم يف الاتحاد الأوروبي بوعوده لها في محاولة تخطيها، كان على الاتحاد الأوروبي أن ينفتح تالياً على الدولة الروسية من أجل إيجاد أرضية صالحة لتحقيق الأمن والاستقرار في شرق أوروبا.
وإذا كان الاتحاد الأوروبي قد نجح في الدفع نحو تحقيق السلم في شرق القارة من خلال تكريس حالة من الأمر الواقع بين دول شرق أوروبا بشكل عام ودول يوغسلافيا بشكل خاص، فإن قراره بالاعتراف باستقلال كوسوفو وضمها إلى الاتحاد الأوروبي لم يكن واضحاً إذ عارضت هذا الاستقلال خمس دول من دوله وبالتالي، فإنه على الرغم من صفة المرشح المحتمل للعضوية في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2005، فإن الاتحاد الأوروبي قد آثر، منذ ذلك التاريخ، اعتماد القرار 1244 كإطار منظم لعلاقته مع ذلك الإقليم، من دون محاولة تسريع عملية انضمامه إلى الاتحاد.
لقد كان واضحاً للاتحاد الأوروبي أن أي خطوة متسرعة لضم كوسوفو إلى الاتحاد ستترك تأثيراً سلبياً على الأمن والسلم الإقليميين في البلقان، وفي شرق أوروبا، إذ إن القراءة الروسية ستفترض حتماً دوراً أطلسياً مخفياً يهدد مجالها الحيوي على حدودها الغربية. فالتقدير الروسي يفترض خضوعاً"أوروبياً̎ للمسارات الاستراتيجية الأطلسية، كون المناورة الأوروبية في شرق أوروبا تفتقر دائماً إلى الاستقلالية وتتحرك من خلال محركات حلف شمال الأطلسي.
إلا أن حالتي المساكنة والمهادنة اللتين كرسهما الاتحاد الأوروبي في شرق أوروبا فقدتا قيمتهما بعد انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. فالمحاولة الروسية لإسقاط النظام في أوكرانيا وتنظيم عملية الاستفتاء على انفصال الأقاليم الأربعة في شرق أوكرانيا جعلتا الجانب الأوروبي يتحلل من الأمر الواقع الذي كان قائماً، وتكرست لدى الاتحاد الأوروبي قناعة بعدم جدوى المراهنة على الأساليب الناعمة في محاولة تحصين حدوده الشرقية، وبذلك أقرت دوله بضرورة الالتحاق بالمشروع الأطلسي المخطط له أميركياً. فالخيار الغربي لمواجهة التمدد الروسي المفترض يتمثل في راديكالية تهدف إلى فرز دول شرق أوروبا بين حليف ومناوئ وفق المنطق الأميركي: إما معنا وإما ضدنا.
وعليه، قد تكون حالة كوسوفو وصربيا هي الأكثر تأهيلا̎ للبدء بمشروع الفرز الهادف إلى إضعاف أو إسقاط حلفاء روسيا في أوروبا، حيث يعود تاريخ إعلان البرلمان الكوسوفي (جمعية كوسوفو) استقلال الإقليم إلى عام 2008، وقد سبقته حملة قصف جوي ضد صربيا عام 1999، وصدور قرار ممهد للانفصال عن مجلس الأمن. وإذا كانت حالة كوسوفو هي الأكثر تأهيلا̎ كما ظهر، فإن ذلك لا ينفي وجود مخططات غربية قد تستهدف كرواتيا أو هنغاريا (المجر)، أو قد تستهدف أيضاً محاولة إقصاء اليمين المتطرف الداعم لروسيا في أكثر من بلد أوروبي.