السيسي وبينيت.. لقاءٌ ساخن على "مائدة غزة"
على الرغم من الفشل الواضح للقاء في الشق السياسي المتعلق بالملف الفلسطيني، فقد قابله حضورٌ قوي لملف غزة الشائك على أكثر من صعيد.
بعد أن تجاوزت الخلوة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس وزراء الاحتلال نفتالي بينيت الساعتين ونصف الساعة، خرجا يتضوّران جوعاً على وقع سخونة الملفات المطروحة. فُتحت أبواب القاعة، وظنّا أنّ مأدبة الطعام باتت جاهزة، ففاجأهما موظف الخدمات بتقديم القهوة لهما للمرة الثانية! هذا ما نشره موقع "واللا نيوز" الإسرائيلي.
حرارة الجوع لن تسدّ رمقها وجباتٌ دسمة من ملفاتٍ ساخنة تؤرّق الجانبين، ووعودٌ متبادلةٌ بالتّعاون الوثيق قد لا تشق طريقها نحو النور لكليهما في آخر النفق، فالنّظام المصريّ يسعى إلى المزيد من الشرعية الدولية والمساعدات المالية والعسكرية التي تُغذّي جيشه، كما يسعى إلى نيل رضا إدارة بايدن المتحصّنة حتى هذه الأيام خلف ملفّ حقوق الإنسان، يقابله سعي الكيان الإسرائيلي إلى مزيدٍ من الأمن، في ظلّ تدحرج كرة اللهب الفلسطينية المشتعلة في جميع الساحات، وخصوصاً بعد معركة "سيف القدس" وعمليّة "نفق الحرية"، وفي ظل حكومةٍ صهيونيةٍ هشّة تعصف بها عقدة نتنياهو، ومصاعب داخلية وخارجية قد تطيحها في أي لحظة.
صرّح بينيت، وفق ما نقلته القناة "12" الإسرائيلية، بأنّ "اللقاء كان مهماً جداً، وجيداً جداً، واستطعنا خلال اللقاء صناعة بنيةٍ تحتيةٍ لإقامة علاقةٍ متينةٍ، تمهيداً لمواصلة الاتصالات بيننا". أما الرئيس السيسي، فقد عبّر عن حفاوته بضيفه، ووصفه بـ"الرئيس الشجاع"، ووضع علم الاحتلال في مقابل العلم المصري، ما شكّل سابقةً دبلوماسيةً في الأعراف المصرية في التعامل مع الكيان الإسرائيلي، ما لفتَ انتباه كل وسائل إعلام الاحتلال، إذ كتبَ مراسل صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية إيتمار أيخنر: "في العام 2007، التقى رئيس الوزراء آنذاك إيهود أولمرت الرئيس المصري حسني مبارك في شرم الشيخ. وحتى ذلك الحين، لم يكن هناك علم إسرائيلي. لذا، إنّ الرغبة المصرية في رفع العلم الإسرائيلي إلى جانب العلم المصري في أول اجتماع عام منذ عقد، هي بالتأكيد لفتة مهمة".
الصورة الباردة للعلاقات الثنائية بين القاهرة و"إسرائيل" خلال العقد الماضي، على الرغم من حميمية الطابع الأمني والاستخباراتي للعلاقة، تدفع حرارتها الآن ملفاتٌ ملتهبة وشبكةٌ واسعةٌ من المصالح والمنافع، هي أقرب إلى النظام المصري منه إلى شعبه واقتصاده وأمنه، لكنها مصالح ومنافع عامة للجانب الإسرائيلي، فهي تطال شبكة تحالفاته وأمنه القومي ومصالحه الاستراتيجية ككيان وقوةٍ إقليمية مرتبطة ومدعومة من الغرب والولايات المتحدة.
الملفّ الفلسطيني كان حاضراً في لقاء شرم الشيخ. نفتالي بينيت القادم من عُمق المستوطنات، وكلية التوحُّش العسكري الصهيوني، ومدرسة اليمين المتطرف الذي يؤمن بـ"إسرائيل" يهوديةً حتى النخاع على كامل الجغرافيا الفلسطينية، ويرفض أي مشروع لإقامة حتى لو دويلة فلسطينية بوكيلٍ أمنيٍ ممتاز، رفض لقاءً رباعياً قبل أيام قليلة يجمعه بالرئيسين المصري والفلسطيني والملك الأردني، وقَبِل بلقاءٍ ثنائي يجمعه بالسيسي.
إنَّ بيان مكتب الرئيس السيسي، وحديثه عن ضرورة إحياء السلام في المنطقة، والحفاظ على "السلام" بين "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية، يعدّ ضرباً من المجاملات والبيانات التي لا قيمة لها ولا أثر في إحياء المسار السياسي وتفعيل ملف التسوية.
وبعد عودة بينيت من شرم الشيخ، صدرت 3 تصريحاتٍ من أعلى الهرم في حكومة الاحتلال؛ الأوَّل من بينيت نفسه، الذي عبّر عن رفضه المطلق للقاء بالرئيس عباس، والثاني من وزيرة داخليته، إيليت شكيد، التي أكّدت أن "بينيت لا نية لديه للقاء محمود عباس، وليس ضمن تفكيره، وليس مطروحاً على جدول أعماله". أما الثالث، فقد صدر عن وزير مالية الاحتلال، أفيغدور ليبرمان، والذي رفض فيه أي حلول سياسية مع السلطة الفلسطينية، ورأى أنّ المسار الصحيح يجب أنْ يرتبط بملفي الاقتصاد والأمن فحسب.
وبذلك، يكون اللقاء الذي جمع السيسي ببينيت ليس مُوفّقاً في ترويضه للموافقة على السير في مسار سياسي تدعمه مصر، على الرغم من أنّ هناك اتفاقاً ضمنياً في المضي قدماً بالرؤية الأميركية لدعم السلطة الفلسطينية اقتصادياً، وتقديم مجموعة من التسهيلات الحياتية والإنسانية، لإعادة تثبيت مشروع السلطة كوكيل أمني في مواجهة قوى المقاومة الفلسطينية.
على الرغم من الفشل الواضح للقاء في الشق السياسي المتعلق بالملف الفلسطيني، فقد قابله حضورٌ قوي لملف غزة الشائك على أكثر من صعيد. مصر تريد دوراً هو الأبرز في الملف، ويظهرها كوسيط محايد وضاغط على الفلسطيني في الوقت ذاته، وهو يُشكّل رافعةً جيدةً للنظام المصري أمام الإدارة الأميركية، وكأنّ القاهرة تريد أنْ تُثبت لواشنطن أنّها قادرة على أداء أدوارٍ مهمة في الساحة الإقليمية، على غرار الدور القطري في الملف الأفغاني. وقد حظيت الدوحة بمكانة متميزة لدى بايدن وإدارته على دورها كوسيط أولاً، وكَيَدٍ للأميركي في مستقبل أفغانستان بعد تمام عملية الانسحاب وتشكيل حكومة "طالبان" ثانياً.
ثمة 3 نقاط أساسية في هذا الملف. "إسرائيل" طلبت منع إطلاق الصواريخ الفلسطينية باتجاه المستوطنات، فيما طلبت مصر وقف النشاطات العسكريّة الإسرائيليّة ضدّ غزة. السيسي تعهّد بالضّغط على فصائل المقاومة الفلسطينية للجم نشاطاتها الصاروخيّة، لكن لا ضمانات جدية قدّمها بينيت لوقف الأعمال العدائية الإسرائيلية ضد غزة، ومصر في الوقت ذاته لا تملك يداً طولى على المقاومة لإرغامها على القبول بهدوء لا يدفع الإسرائيلي ثمناً مناسباً له.
في لقاء بينيت مع السيسي، جلب معه يارون بلوم، كما كشفت القناة السابعة الإسرائيلية، وهو منسّق ملف الأسرى والمفقودين الإسرائيليين، وهذا يقودنا إلى الملف العالق منذ العام 2014، لإتمام صفقة تبادل أسرى بين "إسرائيل" وحركة "حماس".
الكيان الإسرائيلي يربط ملف الإعمار وحصار غزة بملف أسراه. وفي آخر التصريحات الصادرة عن الكيان عقب انتهاء زيارة بينيت وعودته، تحدث نائب وزير الجيش ألون شوستر إلى إذاعة الاحتلال، وأكد أنّ "إعادة إعمار قطاع غزة مرهونٌ بإحراز تقدم في قضية الأسرى والمفقودين الإسرائيليين"، فيما قيادة "حماس" تُصر على الفصل بينهما بشكل تام.
ما يعني القيادة المصرية هو الدعم الأميركي والخليجي والمجتمع الدولي بأنْ تكون مصر هي صاحبة الاستثمارات حصراً في أي أموال مرصودة أو سوف تُرصَد لإعمار غزة، وهذا ما يعنيها تماماً، والذي سوف يدفعها إلى تحريك ملف الأسرى الإسرائيليين، ومحاولة إقناع حكومة بينيت برؤيتها للحل، وبالضغط على "حماس" من جانبٍ آخر. ومع ذلك، الجهود المصرية مشكوكٌ بنجاحها.
ملفاتٌ عديدةٌ طُرحت أمامهما؛ الملف الأمني والاستخباراتي للجانبين. الملف الإيراني وبرنامج إيران النووي والصاروخي ودورها في الإقليم. سد "النهضة" والطلب المصري من "إسرائيل" للوساطة بينها وبين أديس أبابا. تدفئة العلاقات المصرية الأميركية بمساعدة إسرائيلية، وتجاوز إدارة بايدن لملف حقوق الإنسان، وقبولها بفتات ما يُقدّمه النظام المصري في هذا الملف، وتسهيل وصول المساعدات المالية الأميركية إلى الجيش المصري، ورفع الفيتو عن ذلك.
في ظلِّ وفرة الملفات، وارتباط أغلبها بشرعية النظام المصري لدى الولايات المتحدة، ظهر الملف الفلسطيني عالقاً، بلا أفقٍ سياسي، وبمحاولاتِ توفيقٍ من الجانبين، في ربط الاقتصاد بالأمن، عبر مقايضتها بهدوء في قطاع غزة، وتقويةٍ لنفوذ السلطة في رام الله كوسيلةٍ لمواجهة قوى المقاومة.