الحملة المغرضة على اللاجئين السودانيين في مصر: تجاهل للتاريخ والجغرافيا
رغم عمق العلاقات بين مصر والسودان، فإنَّ هناك تحديات تواجه هذه العلاقات، ولكن بالنظر إلى التاريخ الطويل من التعاون والتلاحم بين البلدين، يمكن القول إن هذه التحديات ليست سوى محطات يمكن تجاوزها.
في الآونة الأخيرة، وفي إطار الحملة المغرضة على اللاجئين العرب، تشهد وسائل التواصل الاجتماعي حملات ممنهجة ضد اللاجئين السودانيين في مصر.
هذه الحملات تتجاهل حقائق التاريخ والجغرافيا، وتتسم بأنها مغرضة ومشبوهة في أغلبها، ولا تصبّ في مصلحة البلدين والشعبين، بل تخدم أعداء مصر الذين يسعون لعزلها عن محيطها العربي والأفريقي توطئة لتكسيرها بين ضلوعها.
العلاقات التاريخية والروابط المتجذرة
من نافلة القول الحديث عن العلاقات التاريخية الوطيدة والمتجذرة الممتدة عبر العصور التي تربط مصر والسودان. هذه العلاقات ليست مجرد حدود جغرافية أو مواقف سياسية، بل هي أعمق من ذلك بكثير، إذ يتشارك البلدان نهر النيل العظيم، وتربطهما وشائج اجتماعية وثقافية متجذرة.. هناك العديد من المحطات التاريخية التي عزَّزت هذه الروابط، والكثير من المواقف النبيلة التي اتخذها السودان تجاه مصر، وخصوصاً في لحظات المحن.
وقد عَرَفت مصر والسودان فترات من الوحدة السياسية، كان أبرزها في عهد محمد علي باشا وأحفاده، إذ أصبح السودان جزءاً من مصر. شهدت هذه الفترة تعميقاً للروابط بين البلدين، وازدهاراً في التعاون الاقتصادي والثقافي، فقد كانت الحدود بين البلدين مفتوحة، وازدهرت التجارة، وتدفق الناس بحرية، ما ساهم في خلق نسيج اجتماعي مترابط.
شريان الحياة المشترك
إن نهر النيل ليس مجرد نهر، بل هو شريان الحياة الذي يجري في أوصال الشعبين المصري والسوداني، موثقاً الإخاء والمصير المشترك على مر العصور. من خلاله، يتقاسم البلدان الموارد المائية التي تعد مصدر رزق لملايين الناس. هذا الرباط الطبيعي ساهم في تعزيز التعاون بين البلدين على مر العصور، إذ كانت هناك دائماً مساعٍ مشتركة لإدارة المياه والاستفادة منها بشكل عادل ومستدام.
العلاقات الاجتماعية المتداخلة
تشهد العلاقات الاجتماعية بين مصر والسودان تداخلاً كبيراً، إذ يوجد عدد كبير من الزيجات المختلطة بين الشعبين. هذه الزيجات ليست مجرد روابط أسرية، بل هي جسور تعبر من خلالها الثقافات والتقاليد، ما يساهم في تعزيز التفاهم والتقارب بين الشعبين، ويجعل العائلات المصرية السودانية تمتد عبر الحدود، وتعزز الروابط الإنسانية التي تتجاوز السياسة والجغرافيا.
السودان ونكسة يونيو 1967
لا يمكن الحديث عن العلاقات المصرية السودانية من دون الإشارة إلى المواقف النبيلة التي اتخذها السودان تجاه مصر، وخصوصاً خلال العام 1967، عندما تعرضت مصر لعدوان صهيوني غاشم أفضى إلى نكسة قاسية.
كان السودان من أوائل الدول التي هبَّت لنجدة مصر، فقد كان المأوى والملجأ للطائرات المصرية لحمايتها من الاستهداف الصهيوني. وقد فتح أبوابه للكلية الحربية المصرية لتواصل تعليم طلابها وتدريبهم بعيداً من الخطر الذي يتهددها من آلة الحرب الصهيونية.
هذا الدعم لم يكن مجرد موقف سياسي، بل كان تجسيداً للعلاقات الأخوية بين البلدين، إذ إن الشعب السوداني لم يتردد في استقبال المصريين وتقديم كل ما يلزم لهم في تلك الفترة العصيبة، ما يعكس عمق الروابط والمشاعر الطيبة بين الشعبين.
في إثر نكسة يونيو 1967، واجهت مصر فترة من التحديات الكبيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي. في هذا السياق، قام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بزيارة إلى السودان للمشاركة في قمة الخرطوم، وحظي خلالها باستقبال أسطوري يعكس عمق الروابط بين الشعبين المصري والسوداني.. هذا الاستقبال لم يكن مجرد حدث عابر، بل كانت له دلالات عميقة وأثر كبير في مسار العلاقات بين البلدين وفي نتائج مؤتمر قمة الخرطوم.
الاستقبال الأسطوري لعبد الناصر
عندما وصل جمال عبد الناصر إلى السودان بعد النكسة، كان في استقباله حشود هائلة من السودانيين الذين خرجوا لتحيته ودعمه. هذا الاستقبال الجماهيري الحاشد كانت له دلالات عديدة، فقد كان تعبيراً عن رفض الجماهير السودانية للهزيمة التي لحقت بمصر، والتأكيد أن الهزيمة العسكرية لا تعني نهاية النضال، ولا تمس بروح الصمود والمقاومة.
كشف الاستقبال الجماهيري الهائل عن الدعم الشعبي السوداني للقيادة السياسية المصرية المتمثلة في جمال عبد الناصر. هذا الدعم لم يكن فقط لناصر كشخص، بل لما يمثله من قيم التحرر والاستقلال ومقاومة الاستعمار.
كما أن الاستقبال الحاشد من الجماهير السودانية لناصر كان يحمل تأكيداً على وحدة المصير بين الدول العربية، وأن ما يصيب مصر يصيب جميع الدول العربية. كانت الرسالة واضحة بأن السودان يقف إلى جانب مصر في محنتها، وأن الشعوب العربية متضامنة في مواجهة التحديات.
اللاءات الثلاث والدعم الاقتصادي
كان للاستقبال الحافل لعبد الناصر من الجماهير السودانية دور كبير في تعزيز الروح المعنوية والتمهيد لنجاح مؤتمر قمة الخرطوم الذي عقد بحضور القادة العرب في أغسطس 1967 لمناقشة تداعيات نكسة يونيو ووضع خطة عمل المؤتمر، فكان مؤتمراً تاريخياً بفعل هذا الدعم الشعبي، إذ أطلق ما عُرف بـ"اللاءات الثلاث": لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض مع العدو الإسرائيلي. هذه اللاءات جسدت الموقف العربي الموحد والحاسم في مواجهة العدوان الصهيوني، وجاءت تأكيداً على التمسك بالحقوق العربية في تحرير كامل التراب العربي من الاحتلال الصهيوني.
وأجمع القادة العرب على ضرورة تقديم دعم اقتصادي لكل من مصر وسوريا لتعزيز صمودهما في مواجهة التداعيات الاقتصادية للعدوان. هذا الدعم شمل مساعدات مالية ونفطية، وأسهم في تعزيز قدرة البلدين على الصمود واستعادة بناء القوات المسلحة، فكانت حرب الاستنزاف وتلاها نصر أكتوبر.
دلالات الاستقبال ومخرجات المؤتمر
أكد الاستقبال الشعبي لعبد الناصر ومخرجات مؤتمر الخرطوم أن الهزيمة العسكرية لن تكون سبباً في تفرق العرب، بل على العكس، أصبحت حافزاً لتعزيز الوحدة والتضامن. جسد الاستقبال والتأييد الشعبي لناصر في السودان روح الصمود والمقاومة التي ميزت المرحلة التالية من الصراع العربي الإسرائيلي. كان الشعب السوداني يعبر عن استعداده للوقوف بجانب مصر في محنتها، ما ساهم في رفع الروح المعنوية للمصريين.
التعاون المصري السوداني بعد مؤتمر الخرطوم
ساهمت هذه الأحداث في تعزيز العلاقات الثنائية بين مصر والسودان، وأصبح التعاون بين البلدين أكثر وثوقاً وقوة، وشهدت العلاقات تطوراً في مختلف المجالات. شهدت العلاقات المصرية السودانية بعد مؤتمر الخرطوم تعاوناً ملحوظاً في المجالات الاقتصادية والعسكرية.
السودان قدم دعماً كبيراً لمصر، سواء في توفير ملاذ آمن للطائرات المصرية أو في الدعم الاقتصادي. أسهمت هذه المرحلة في تعميق الروابط الاجتماعية والثقافية بين الشعبين، وتزايدت التبادلات الثقافية والزيارات المتبادلة، ما ساهم في تعزيز الفهم المتبادل والتقارب بين الشعبين.
التحديات والآمال المستقبلية
رغم عمق العلاقات بين مصر والسودان، فإنَّ هناك تحديات تواجه هذه العلاقات، ولكن بالنظر إلى التاريخ الطويل من التعاون والتلاحم بين البلدين، يمكن القول إن هذه التحديات ليست سوى محطات يمكن تجاوزها من خلال الحوار والتعاون المشترك.
التفكير في المستقبل والعمل على تعزيز هذه الروابط بما يعود بالنفع على الشعبين والبلدين معاً يبقي الأمل في أن تستمر هذه العلاقات في النمو والازدهار، وأن تظل مصر ملجأً آمناً لكل من يبحث عن الأمان، وخصوصاً لأشقائنا السودانيين الذين نتقاسم معهم تاريخاً مشتركاً وروابط لا تنفصم.
إن الأمل معقود على القيادات والشعوب في البلدين للعمل معاً من أجل مستقبل أفضل يعزز التعاون الاقتصادي والثقافي والسياسي، ويحقق الرخاء والاستقرار للجميع.
دروس التاريخ
في ضوء ما تم استعراضه، يتضح أن العلاقات بين مصر والسودان تمتد بجذورها في عمق التاريخ، وأنها مبنية على أسس من التعاون والتفاهم المتبادل. رغم التحديات التي قد تواجه هذه العلاقات، يبقى الأمل معقوداً على الحكمة والوعي المشترك بين قيادات وشعوب البلدين.
إن الروابط التي تجمع بين مصر والسودان والمواقف النبيلة التي سجّلها التاريخ تعد دعامة أساسية لتعزيز العلاقات المستقبلية والمضي قدماً نحو تحقيق المصالح المشتركة.
يجب أن تكون هذه الروابط دافعاً قوياً لمواصلة العمل على تجاوز العقبات والتحديات الراهنة وتعزيز أواصر التعاون في مختلف المجالات. إن الأمل في مستقبل مشرق يتطلب منا جميعاً العمل الجاد والإصرار على تحقيق التكامل الاقتصادي والثقافي والسياسي لضمان رخاء واستقرار البلدين والشعبين.
فلنستمر في بناء جسور الثقة والتعاون، متخذين من التاريخ دروساً، ومن الحاضر فرصاً، ومن المستقبل طموحات نسعى لتحقيقها. إن العلاقات بين مصر والسودان يجب أن تظل نموذجاً يحتذى به في العلاقات العربية الأفريقية، مؤكدين وحدة المصير والمستقبل المشترك.