"التنف" تحت الاستهداف... والمقاومة تثبت مصداقيّتها مجدداً
من أبرز الاحتمالات التي تتصدَّر المشهد مستقبلاً هو سعي واشنطن للقيام برد محتمل سيتضمّن حرصاً شديداً على ألا يكون كبيراً.
للمرة الأولى، تُستهدف قاعدة "التنف" التي تعتبر من أهمّ مراكز للقوات الأميركية في المنطقة، بل من أقدم وأكبر القواعد التي أقيمت فيها لأهداف جيوسياسية وعسكرية، بعد اندلاع الحرب على سوريا، إذ تذرّعت واشنطن بإقامتها منذ العام 2014، بحجّة محاربة الإرهاب، كغطاء لتبرير تواجدها في سوريا، وقطع الطريق مع العراق، أو ما يُعرف بالخطّ البريّ أو العمق الجغرافي البريّ الواصل بين محور المقاومة من إيران، وصولاً إلى لبنان، مروراً بالعراق وسوريا.
مثّلت هذه القاعدة منذ بداية تأسيسها مركز جمع وتدريب للتنظيمات المسلّحة التي دُعمت من المؤسّسات العسكريّة والسياسيّة، وحتى الأمنيّة، في واشنطن، بما فيها ما سُمي بـ"بمغاوير الثورة" و"أسود الشرقية" التي صنّفتهم واشنطن بـ"المعارضة المعتدلة"، على حدّ وصفها.
وازداد دور "التنف" وأهمّيتها مع تحرّك الجيشين السوري والعراقي، بالتعاون مع حركات المقاومة، بما فيها الحشد الشعبي وحزب الله، للقضاء على تنظيم "داعش"، إذ تحوَّلت هذه المنطقة بمحيطها الَّذي حدّدته واشنطن بمدى 55 كلم، ووصفته بكونه "آمناً"، إلى ممرّ عبور لعناصر التنظيم في الصندوق بين الجغرافيتين، تارة للهروب من المواجهة، وتارة أخرى للتوظيف خدمةً للمشروع الأميركي.
وازدادت هذه الأهمية بعد إغلاق غرفة موك، إذ باتت القاعدة تشكّل، إلى جانب تحوّلها إلى نقطة تخطيط لاستهداف المواقع الحيوية للمقاومة، مركزاً رئيسياً لتدريب المسلحين ونقطة انطلاقهم بغطاءٍ وحمايةٍ، وفق معلومات استخباراتية أميركية.
كما أنّ القاعدة قدّمت على مر السنوات الماضية خدمة مرور آمن للطائرات الصهيونية لاستهداف مواقع داخل العمق السوري في وسط البلاد وشمالها، وضد أهداف في العراق، كما حصل في العام 2020.
غرفة حلفاء سوريا التي توعّدت بالردّ انتقاماً على الاعتداء المشترك الأميركي الصهيوني منذ أيام على أهداف لوجستية واقتصادية ومدنية في مدينة تدمر، ترجمت واقع تهديدها ميدانياً عبر تكتيك عسكري ربما شكّل عامل مفاجأة للقوات الأميركية، ويراد منه تحقيق عدة غايات وأبعاد تكتيكية واستراتيجية، أولها أنَّ الرد كان حاجة ضرورية لمحور المقاومة بعد العبث الأميركي بالأوضاع الداخلية في دول هذا المحور، ومحاولة خلق نزيف داخلي عبر تدخّلها في الانتخابات العراقية، وتعكير السلم الأهلي اللبناني، ومحاولة خلق واقع يمهد للعودة إلى تكرار نموذج الحرب الأهلية "1975 – 1989"، وقبلها استهداف مواقع عسكرية واقتصادية في تدمر، ومن ثم حصول تفجير إرهابي استهدف مبيتاً عسكرياً في قلب العاصمة دمشق، في خرق أمني له أهداف سياسية وعسكرية لسنا في وارد ذكرها الآن. لذلك، كان يجب أن يكون الرد قاسياً باتجاه الولايات المتحدة الأميركية، في ظلِّ سعيها الدؤوب لخلق هذا الواقع الفوضوي في كامل هذه المساحة.
ثانياً، المرحلة التي تمر بها المنطقة تستوجب الرد على مواقع مهمة، سواء لتعزيز مصداقية دول المحور أمام رأيها العام الداخلي أو للحفاظ على الإنجازات العسكرية المتراكمة.
ثالثاً، إنَّ استهداف القاعدة ضرورة لمواجهة التدريبات التي تحصل بإشراف ما يقارب 200 ضابط أميركيّ وبريطانيّ لعناصر "داعش" الذين يتمّ استقدامهم من سجون الشدادي والصناعة وغيرها من المعتقلات التي تديرها ميليشيات "قسد"، بحيث يتمّ تدريبهم في القاعدة أو في الجزء الجنوبي الغربي من مخيم "التنف" الذي تصرّ واشنطن على عدم تفكيكه.
الأهمّ من ذلك أنَّ مثل هذه القاعدة التي لها دور جيوسياسي وعسكري على مستوى المنطقة، يكون محصّناً بأسلحة دفاعية متطورة. كما أنّ قدرة حلفاء سوريا على استهدافها ضمن تكتيك معيّن، من تشويش، ومن ثم استهداف، يشير إلى طبيعة الصّراع الدائر ضمن صراع العقول بين الطرفين.
ويبدو أنَّ دول المحور تريد تغيير قواعد الاشتباك لتتبلور في صورتها المستقبلية بصراعها مع أميركا على شكل التطوّر الذي شهده الصراع بين حركات المقاومة مع "إسرائيل"، ولكن ضمن معايير ومستويات أكبر على مستوى المنطقة، بما يعزّز قواعد الردع التي بدأ بتكريسها مع استهداف قاعدة "عين الأسد" بعد اغتيال اللواء قاسم سليماني وأبو فؤاد المهندس ورفاقهما.
وبالتالي، بعد التمكّن من استهداف قاعدة "التنف"، سنكون أمام دائرة من الاحتمالات التي تسلكها الولايات المتحدة الأميركية:
أولى تلك السيناريوهات أن تلجأ واشنطن إلى تعزيز دور "داعش" في العراق وسوريا لاستهداف نقاط للجيش السّوري والعراقي والحشد الشعبي.
ثانيها، أن تُقدِم أميركا منفردة أو بالشراكة مع "إسرائيل" على استهداف نقاط للجيش السوري أو أحد حلفائه في المنطقة الشرقية أو غيرها من المناطق، أو تكليف "إسرائيل" بذلك وفتح المجال الجوي لها.
ثالثها، التموضع الأميركي في المنطقة سيطرح بقوّة خلال الفترة القادمة، إذ ستسعى الحكومة الصهيونية برئاسة بينيت وأصحاب الرؤوس الحامية من اللوبيات الصهيونية في أميركا أو المقربة منها من اللوبيات الأخرى، لتعزيز التواجد الأميركي العسكري، مستغلّين تغيير التركيبة السياسية في المشهد العراقي بعد الانتخابات البرلمانية، وممارسة الضغوط على الرئيس جو بايدن لعدم الانسحاب، مستغلين وجود بعض الشخصيات داخل الإدارة لزياد ممارسة ضغطهم.
من جانب آخر، قد يؤدّي استهداف قاعدة "التنف" إلى دفع الرئيس بايدن إلى الإسراع في قرار الانسحاب من المنطقة، خشية حصول عمليّات انتقاميّة متلاحقة أو خشية أن يؤدي هذا الاستهداف إلى نمو المقاومة الشّعبية بشكل متزايد، ما يرهق الوجود الأميركيّ بشرياً ومادياً، ويعمّق تأزم وضع أميركا على المستوى الدولي.
لذلك، من أبرز الاحتمالات التي تتصدَّر المشهد مستقبلاً هو سعي واشنطن للقيام برد محتمل لحفظ ماء وجهها على الصعيد الداخلي من جانب. ومن جانب آخر، الحفاظ على الحاضنة الشعبية للرئيس بايدن التي استنزفت أكثر من 12% من الناخبين خلال الشهور العشرة الأولى من حكمه، وفق آخر استطلاعات الرأي، مع الإشارة إلى أنّ طبيعة ردّ واشنطن على ردّ المقاومة سيتضمّن حرصاً شديداً على ألا يكون كبيراً، تجنّباً لردّ مضاد يزيد من التأزم السياسي والعسكري للولايات المتحدة عموماً، وللديمقراطيين والرئيس بايدن بصورة خاصّة، قبل انتخابات الكونغرس النصفية 2022، ولكي تحافظ في الوقت ذاته على وتيرة الأجواء الإيجابية في حوارها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية حول ملفها النووي.