التّطبيل والتّطبيع: حفلات الرّقص فوق أوجاع الشعوب
ليست تلك المرة الأولى التي يتنكّر فيها حكام الخليج لقضايا الشعوب العادلة، فتاريخ المملكة السعودية، على سبيل المثال، حافل بالخزي والخذلان لقضايا العرب المحقّة.
تاريخياً، يكاد يكون "التطبيل" سمة من سمات السياسة في بعض ميادين السياسة. وقد ألصق المحلّلون والناقدون هذه الصّفة بالناشطين والمحلّلين والإعلاميين الّذين عُرفوا تاريخياً بمحاباتهم وتصفيقهم لسلطة المال والنّفط في بعض الأنظمة التي أبدعت منذ نشأتها بتحييد كلّ من يعارضها أو يخالف أهواءها السياسية والدينيّة والاجتماعيّة واضطهاده ومعاداته، وصولاً إلى قتله.
لكنّ المعنى الّذي أردناه هنا هو المعنى اللغويّ البحت للفعل طبّل. إنَّ نظرة خاطفة إلى الانقلابات الاجتماعيّة في بعض المجتمعات الخليجيّة، تكشف بما لا يقبل الشكّ أن السلطات السياسة لم تعد تستسيغ "التطبيل" السياسيّ والإعلامي فقط، ولم يعد يطربها "تكميم الأفواه" المناوئة لها، وأصوات التعذيب في سراديب سجونها الموغلة في الكره والبشاعة، بل باتت تسعى، ومنذ زمن غير بعيد، لتحويل شعوبها إلى ضاربي طبول حقيقيين، يرقصون على وقع الأهازيج والحفلات المترفة، ويشاركون المايسترو العالميّ رؤيته التغييرية لمجتمعاتهم في المحافل العربيّة والدّولية.
بالطّبع، قد يخالفنا البعض في انتقادنا هذه المظاهر، وحديثنا عن خروج السّعودية - زعماً - من عباءة الوهابيّة التي قُطعت باسمها الرقاب، وكُفّر الناس، واغتصبت المدن، وجوّعت الشعوب الآمنة، وباسمها أيضاً ما زال ممنوعاً على أي أحد أن يرفع رأسه، معارضاً كان أو ناصحاً.
ولكنَّ الوتيرة العالية التي يسير بها التطبيع العلنيّ مع الكيان الصهيوني وتقديم فروض الطاعة والولاء لأميركا، مقابل تكميم الأفواه المعارضة للسّياسات الخليجيّة، التي تتجاهل اغتصاب الأرض والتاريخ، وإلغاء الهويّة العربيّة والإسلاميّة، واستبدال ربطة عنق فاخرة مصنوعة في "إسرائيل" بها، وكأس "ويسكي" فاخر موقّع باسم جنرالات الحرب في أجهزة الاستخبارات الأميركيّة، هذه الوتيرة تكشف بما لا يدع مجالاً للشكّ أن اللهاث اليوم للخروج من عباءة الدّين والتقوى، يكاد يتساوى مع اللهاث إلى التسليح العسكري والتكنولوجي المدعوم أميركياً وإسرائيلياً، وإلى جعل فلسطين وطناً للصهاينة على حساب دماء الفلسطينيين ومعاناتهم وجراحهم.
ليست تلك المرة الأولى التي يتنكّر فيها حكام الخليج لقضايا الشعوب العادلة، فتاريخ المملكة السعودية، على سبيل المثال، حافل بالخزي والخذلان لقضايا العرب المحقّة، وآثار بصماتها تكاد تكون واضحة للعيان خلف كلّ خذلان في معركة وجوديّة قاتل فيها الأحرار لنيل حريّاتهم، لكنّها المرّة الأولى طبعاً التي تتنكر فيها لعباءة الدين، ولعباءة الوهابية القاتلة التي طالت بها كل فكر حرّ أراد أن يكون الدين نصيحة وهدياً، لا اتّباعاً أعمى لمشايخ السلاطين والحكّام، وهي المرّة الأولى التي يخوض فيها هؤلاء وحول التطبيع صامتين، في ما عهدنا بهم أنَّ أصواتهم كانت "تلعلع" فوق المنابر وفي الساحات تحريماً وتحليلاً، حتى يكاد ينطبق عليهم قول الشاعر: "كان الحرامُ وما تحلّ حلالاً".
كما أنها المرّة الأولى التي تُفرد فيها المساحات لناشطين يتحدّثون بثقة كبيرة عن تحييد "الأراضي المقدّسة" عن دائرة الصراع والجدل. أمّا حفلات الرقص و"الملاهي الشرعيّة"، فهي مباحة للجميع، فلماذا الاستياء من التطبيل والتزمير والرقص والسهر؟ ولماذا لم يُثِر مظهر أحد أئمة المسجد الحرام السابقين في الإعلان الترويجي لإحدى الألعاب الافتراضيّة في موسم الرياض حفيظة أحد؟
إن الشيخ "المودرن" اليوم هو بطاقة عبور "سلمانيّة" لرضا الإدارة الأميركيّة، و"خلق مجتمع تافه ومرفّه" يجعل ابن سلمان يضرب عصفورين بحجر واحد أو لنقل يجعله يضرب على "طبلين" بعصا واحدة: طبل "التطبيع" مع العدو، وطبل "تطويع" شعبه بما يتناسب وأحلامه المجنونة بالسّلطة والتّفرّد.
لسنا طبعاً ضدّ الترفيه، لكنّنا ندرك تماماً أنه كلّما علت وتيرة الإيقاع المنفتح في تلك الأنظمة، وكثر المطبّلون للتطبيع والرقص، ارتفعت وتيرة تكميم الأفواه وإبادة الأصوات الرافضة لتقديم الولاء للأميركي، ومن خلفه الصهيوني. ونكاد نجزم أن أصوات الجائعين في اليمن، والأسرى في السجون الصهيونيّة، والملتحفين العراء في مخيّمات اللاجئين وغيرهم.. تكاد لا تهزّ عرش ابن سلمان وغيره.
ولأنّ الوهابيّة بارعة في تشويه الدين، وتكفير من يعادي الحاكم بأمر الله، وتفتيت الشعوب وتقسيمها باسم الفكر والاعتقاد، فلا شكّ في أن مزيداً من الإيقاعات الرّاقصة ستفرض نفسها على المجتمع المنفتح حديثاً، وأن كثيراً من الراقصين سيسعدهم تقديم وصلة إيقاع جديدة خطواتها بسيطة وسهلة وواضحة: "أن لا ترفع رأسك في وجه سلطانك وحلفائه، وأن تنحني لتقبّل عباءته لنيل رضاه، وأن تلعق حذاءه تعبيراً عن الولاء والطاعة".
ولأنَّ تلك الإدارات فاشلة أيضاً في تنظيم حفلات الرقص، فإنّ الأجندات المعدّة للرضا الأميركيّ ستكون معادلاتها صعبة، وسيكون ثمنها مرتفعاً في محافل العزّة والكرامة. والأميركي البارع تاريخياً في جعل تلك الأنظمة تدفع ثمن ما تعطيه وما تأخذه، يعرف حتماً أنَّ الطرب ليس من سماتها. لذا، فإنّه مستعد دوماً لقلب الطاولة على رؤوس أصحابها، سواء التحفوا بعباءة الدين أو رقّعوها بمهرجان غنائي هنا أو بمسابقة جمال هناك، والعبرة دوماً في النهايات.
كما أنَّه يعرفُ - عكس المتذلّلين له - أن ثمّة جمهوراً رافضاً للذلّ، مهما أخفت الضجة صوت مريديه، وهو جمهور - قلّ أو كَثُر - يتطلّع بعين مترقّبة إلى الكاميرات التي تنقل صور المقاومين والمجاهدين المتحدّين الخنوع والاستسلام بعرقِ الجباه.
وفي المعادلة الغربيّة لموازين القوى، يعرف الصهيو-أميركي أنّك تستطيع أن تشتريَ ذمِماً لا كرامات لها، لكن من لا يملك سوى كرامته وشرف بلاده يستعصي على كلّ محتل ومغتصب، مهما امتلك من مطبّلين وراقصين وفرق أوركسترا يعلو صوتها باسمه، ذلك أنَّ هؤلاء الشرفاء لا يسبّحون إلا باسم ربّ ناصر.. يشفي صدورهم، ولو بعد حين!