الإنكار كمرض سياسي لبناني مزمن... حتى التدمير الذاتي
في لبنان دفع سلوك بعض سياسيّيه بالدرجة الأولى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله لطرح قضية الإنكار، التي يبدو أنها مرض سياسي مزمن ومستعصٍ.
تحدّث الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله منذ فترة في أحد خطاباته عمّا أسماه "ابتلاءات موجودة في الساحة اللبنانية على مستوى بعض القيادات السياسية، والمتمثلة بضيق الأُفق، والحسابات الضيّقة، والانفصال عن الواقع، والتنكّر للوقائع"، وأضاف ناصحاً هؤلاء "أن الإنسان يجب أن يُقارب الوقائع بِصدقيّة، لا يتنكّر لها، لا يهرب منها، لا يعيش في أحلامه وأمانيه، لا يتصوّر أن يبني على أن الواقع هو ما يُحبّه وليس ما هو هو".
يبدو واضحاً أن السيد نصر الله يتحدّث عن مشكلة "الإنكار" وهي بلا شكّ من المشكلات السياسية الكبيرة التي تصاب بها الدول والجماعات فضلاً عن الأفراد.
قبل السياسة، يعتبر "الإنكار" جزءاً من مجال علم النفس. أما انتقاله إلى المجال السياسي فيأتي من ضمن حالة السيولة بين مختلف العلوم الإنسانية.
فنظرية التطوّر عند داروين مثلاً والتي كانت نظرية في علم الأحياء والوراثة سرعان ما تسرّبت إلى السياسة والاقتصاد فانبثقت النظريات في هذين المجالين متناغمة مع قانون داروين حول البقاء للأفضل أو للأقوى أو للأصلح.
والعلاج بالصدمة الذي بدأ في الطب النفسي في خمسينيات القرن الماضي من خلال الصدمات الكهربائية سرعان ما انتقل إلى عالمي السياسة والاقتصاد مخلّفاً الدمار والكوارث كما أوضحت الكاتبة الكندية نعومي كلاين في كتابها الشهير "عقيدة الصدمة".
الأمر ذاته ينطبق على الإنكار الذي يعتبر علماء النفس أنه يتراوح بين كونه "آلية للدفاع" من جهة ووسيلة "للتدمير الذاتي" من جهة أخرى. حالتان يلجأ إليهما المصاب الذي تنتابه عوارض أبرزها: الإصرار على الجهل وعلى النسيان في الوقت نفسه. ويضيفون أنّ الإنكار لا يؤدي بالضرورة إلى انفصال عن الواقع، فالمصاب قد يرى الوقائع ولكنه يفشل في إدراك معناها وأهميتها، ويفضّل خيار تجاهل الحقيقة مع محاولة تلفيق واقع متخيّل أو على الأقلّ غير واضح.
لا تختلف الأمور في حالة الإنكار السياسي، العوارض نفسها تظهر على الأطراف السياسية دولاً وأحزاباً وأفراداً. مع أرجحية كبيرة لأن تؤدي إلى تدمير للذات خاصة إذا تحوّل الإنكار إلى سياسة متّبعة.
ومن أشهر المنكرين الذين عرفهم التاريخ، ملكة فرنسا ماري أنطوانيت، التي قالت عبارتها الشهيرة التي عكست جهلاً وإنكاراً مركّباً بأحوال الشعب الفرنسي قبيل وأثناء الثورة الفرنسية.
يذكر المؤرخون أن ماري أنطوانيت علّقت على شكوى الناس من الجوع وعدم وجود الخبز بقولها: "ولكن لماذا لا يأكلون البسكويت" لتصبح العبارة مضرب مثل لمن يعانون انفصالاً عن واقع شعوبهم. وعلى الرغم من شكوك طرحت حول كون الملكة الفرنسية الأشهر هي بالفعل صاحبة المقولة إلّا أنّ العبارة ظلت تطرح كدليل عن حالة إنكار يعيشها الحكّام تجاه حقيقة الأوضاع التي تعيشها الشعوب.
بعد مرور قرنين من الزمن قالت زوجة شاه إيران "ولكن من هو الخميني" بحسب ما يذكر الكاتب العربي محمد حسنين هيكل في كتابه "مدافع آية الله" لتصبح مع زوجها من أشهر الذين أصيبوا بحالات الإنكار في القرن العشرين.
إلا أن المرتبة الأولى من بين هؤلاء بقيت للرئيس الأميركي جورج بوش الابن الذي خصّص له الصحافي الأميركي بوب وودوورد أحد أشهر كتبه "حالة إنكار" لتوصيف حالته وعوارضها.
يذكر وودوورد في كتابه أن الإدارة التي كان يرأسها جورج بوش افتقدت المصداقية وافتقرت للكفاءة وتجاهلت الحقائق الساطعة والجلية للعيان في العراق، كما أنها أخفت مستوى الهجمات التي تعرّضت لها قواتها من قبل المقاومة العراقية، مشيراً إلى أن هذه القوات كانت تتعرّض في كل 15 دقيقة إلى هجوم، وإلى نحو 100 هجوم في كل يوم ونحو 900 هجوم في الأسبوع.
هذه الحقائق أنكرها الرئيس الأميركي بوش الذي تجاهل التحذيرات وأخفى فريقه حقائق الهجمات التي تتعرّض لها القوات الأميركية في العراق، وأنكر أيضاً توقّعات التقارير الاستخبارية التي حذّرت من أيام سيئة جداً سيعيشها الجيش الأميركي المحتل.
وينقل ودوورد عن بوش قوله في تشرين الثاني /نوفمبر2003 عن المقاومة في العراق: "لا أريد أن يقول أحد من أعضاء إدارتي إنه تمرّد، لا أعتقد أننا وصلنا إلى ذلك".
أما لدى الاحتلال الإسرائيلي فحالة الإنكار تتفشّى اليوم على أكثر من مستوى. وقد نشرت صحيفة "هآرتس" منذ فترة مقالاً للكاتبة ايفا تيلور تحت عنوان: "الإنكار كمرض سياسي" وتتحدّث فيه بالتفصيل عن عوارض عديدة لمرض الإنكار المستشري في "إسرائيل" ومن بينها: إنكار الوجود الفلسطيني قبل العام 1948 وإنكار الرواية الفلسطينية للنكبة وإنكار الكارثة الإنسانية التي يعاني منها الفلسطينيون بشكل متزايد.
في لبنان الذي دفع سلوك بعض سياسيّيه بالدرجة الأولى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إلى طرح القضية يبدو أنّ مرض الإنكار السياسي مزمن ومستعصٍ. ولائحة "الإنكارات" تطول:
- أنكر جزء من اللبنانيين التطورات والتغيرات والتحولات في المنطقة بعد انتهاء الحرب الأهلية في العام 1990 وأصرّوا على وظيفة ودور اقتصاديّين تخطاهما الزمن والوقائع. فتمسّكوا بالاقتصاد الريعي القائم على الخدمات على الرغم من أن دولاً عديدة في المنطقة كانت تخطو خطوات جبّارة في هذا المجال بما يجعل السباق لغير مصلحة لبنان الخارج منهكاً من حرب مدمّرة.
- أنكروا الديمغرافيا ودلالاتها وتنكّروا للأرقام والإحصاءات.
- أنكروا انتصارات حقّقها لبنان ضد العدو الإسرائيلي وتعاطوا كأنّ شيئاً لم يكن مساهمين بإضاعة فرص الاستثمار والبناء على الإنجاز التاريخي. وأنكروا دور المقاومة في حماية لبنان وردع العدو الإسرائيلي.
مع الإشارة إلى أن الذين سبقوا هؤلاء بالانتماء إلى المذهب السياسي نفسه أنكروا لعقود طويلة الأطماع الإسرائيلية في لبنان، لا بل أغمضوا أعينهم عن المجازر التي ارتكبها العدو منذ العام 1948 والاعتداءات التي توالت منذ قيام هذا الكيان وخلّفت الدمار والدماء.
وها هم اليوم ينكرون المصالحات في المنطقة وعلى رأسها المصالحة الإيرانية السعودية والعربية السورية. وينكرون انتصار الدولة في سوريا وموازين القوى الجديدة، ويرفضون الحوار مع الدولة السورية، وهو حوار أكثر من ضروري لحل عدد كبير من الأزمات المتراكمة. ويبدو أن الأمور مع هؤلاء ذاهبة إلى التدمير الذاتي كنتيجة حتمية لممارسة الإنكار كسياسة متّبعة.
إنه الأداء السياسي الذي يفتقد كما قال السيد نصر الله "للفهم العميق والواسع ولفقدان العقل الاستراتيجي"، كما إنها المشكلة التي "تكرّر الأخطاء في لبنان وغير لبنان" كما أكد السيد.