أيمن الرفاتي... حينما يُستشهد الصوت والكلمة
لا شيء يوفي الشهداء حقّهم، فكيف بشهداء الكلمة، وكيف بالزميل والصديق أيمن الرفاتي، لكن لا بدّ أن نكتب، لأنّ الواجب قائم حتى آخر نفس، تماماً كما فعل أيمن، وحُقّ للناس أن تعرف.
كان من آخر توقّعاتي في هذه الحياة القصيرة أن أكتب عن أيمن الرفاتي... شهيداً!
ليس لأنّ الشهادة مستبعدة عن نهاية حياة هذا الشاب المثابر، والقائد الصغير، بل لأنه رحل مبْكراً جداً، أو ـــــ ربما ـــــ لأنه سبقنا. أما الشهادة، فتليق به، إلى حدّ أن الصوت والكلمة اللذين كان يمثّلهما، والأدوار المتعدّدة، الظاهرة والخفية، وضعته في مهداف الاحتلال باسمه ورسمه.
لأننا نؤمن أن الموت ليس عبثاً، نحن على يقين أنه لم يكن مقدّراً لأيمن الرفاتي سوى تلك الخاتمة، مع أنّ الصادم في مكان ما أنها جاءت في وقت بدأ شمالي قطاع غزة يشهد "هدوءاً" ما، مرتبطاً بما كان الرفاتي نفسه يتوقّعه ويرصده، ويربطه في سياق تحليلاته وكتاباته بصمود المقاومة، وخوف الاحتلال من البقاء ودفع الأثمان الأكثر كلفة.
هكذا، جاء الغدر الإسرائيلي من الجوّ ليغادرنا الرفاتي صباح الأربعاء 14/2/2024 مع زوجِ أخيه وثلاثة من أبنائها، تاركاً في هذه الحياة أخاه المكلوم وأشقاء آخرين، وزوجه وثلاث بنات هنّ سلمى ودانا وفاطمة، ونتمنى لهم السلامة جميعاً.
رحل أيمن ليلتقي أمه، التي حزن عليها كثيراً، من دون أن يقرأ الرسائل الأخيرة ويردّ عليها. لكنه قبل صلاة الفجر بساعة كتب تعقيباً على فيديو الاحتلال الذي عرضه منسوباً إلى قائد "حماس"، إبراهيم السنوار، ما نصّه (من دون تعديل):
"هدف نشر الفيديو خبيث يريد أن يضرب ثقة الحاضنة الشعبية بالمقاومة وقيادتها، وكأنه يقول إنّ القيادة تحمي نفسها وعائلاتها في الأنفاق وتترككم للموت. الأسطوانة السابقة نفسها لكن مدعّمة بفيديو.
هنالك تركيز كبير من الاحتلال عبر الإعلام وعملائه وبعض الجهلة على شخص السنوار بهدف تشويهه لأنه كان الأجرأ في تاريخ القضية والمواجهة بعدما قاد معركة السابع من أكتوبر التي كسرت هيبة دولة الاحتلال من رأسها إلى أخمص قدميها.
تقديري أن الفيديو ليس لنفق في خان يونس، بل لنفق منطقة فلسطين أو تفرّع منه".
قرأتُ الرسائل من دون ردّ، فلقد كانت الحمّى تأكل رأسي. في الصباح، وقبيل دقائق من استهدافه، أرسلتُ إليه مقالة مترجمة من موقع "والا" كتبها نير كيبنيس، عنوانها: "خرجوا عن السكة: دولة كاملة تنتظر رؤية (مخرّب) في آخر النفق".
كنت أودّ أن أقول له ثمة يهوديّ "يبهدل" ـــــ بالمعنى الحرفي ـــــ "الجيش" الإسرائيلي على الفيديو، لكنني انتظرت قهوتي كي تجهز ويبدأ النقاش الممتد من نقاشات كثيرة صريحة وجريئة وصادقة... لكن جاء الخبر، وسُكبت القهوة.
تعريف صغير
هو أيمن حمد عبد المعطي الرفاتي، المولود في 22/8/1988، المهاجر أجداده من قضاء العاصمة، القدس، الكاتب والصحافي، والمحلل السياسي، والمقاتل، والمترجم، والباحث والأكاديمي، والمدرّب الإعلامي، ومخطط وموجّه... وصاحب البصمة والدور الخفي والخاص في "وحدة الساحات" وتقريب قوى المقاومة من بعضها بعضاً كافة.
مع أنني كنت "مديراً" لأيمن في أكثر من مهمة، لكنني لم أشعر يوماً أنني كذلك. ليس لتواضع عندي ولا حسن سلوك، بل لأنه كان أكبر وأعظم من أن يكون مرؤوساً، فهو ينسج علاقاته بذكاء وطيبة وسلوك يجعلك لا ترى نفسك إلا معه وإلى جانبه، بل طالباً تستفيد منه.
في أروقة صحيفة "الرسالة" في غزة بداية التعارف المهنيّ قبل الشخصي. سمة الهدوء تسيطر على تفاصيل هذا الشاب الجميل. قصر قامته لا يوحي بما لديه من قدرات ومستقبل واعد. هي النظرة الأولى الخادعة، ثم يظهر كل شيء، فجأة ودفعة واحدة.
في هذه المرحلة لم يكن الرفاتي قد قرّر أن يأخذ المنعطف الأهم في مسيرته المهنية: فهْم العدوّ جيداً، والحديث بلغته، والتفكير باستعارة عقله. مع ذلك كان حضوره طاغياً، وهادئاً في آن. كيف؟ لا أدري! كذلك هم الشهداء، مثل النسمة بل أخفّ.
هنا بدأت اللعبة الجميلة: لعبة المحرّر والكاتب والملاحظات التي لا تنتهي. لكن أيمن على خلاف صحافيين كثيرين كان يستجيب ويتطور بسرعة. مع ذلك لازَمَتْه سمة التكرار في بعض المواضع خاصة لازمة "في غزة". الغريب أنني ـــــ هذا ديدن المحرّرين ـــــ لم أكن منزعجاً البتة، ولا أدري لماذا. الغريب أكثر أنه حتى عند إرجاع المادة إليه للتعديل، كانت أخلاقه العالية تُلزم أياً من كان أن يكون لطيفاً معه إلى أقصى حد.
كان صاحب البصمة والدور الخفي والخاص في "وحدة الساحات" وتقريب قوى المقاومة من بعضها بعضاً كافة.
في اللحظة التي التقيته للمرة الأخيرة "في غزة"، وتحديداً على دوّار السرايا، زفّ إليّ بشرى تمكّنه أخيراً من العبرية. أخبرته أنني مسافر خلال أيام، وقد لا أعود. لكن خطوته هذه جديرة وستكون نقطة تحوّل في حياته مهنياً وأكاديمياً وحتى تنظيمياً.
تواعدنا على اللقاء مجاملة ولم ندرِ أن القدر سوف يجمعنا في بيروت، ليس مرة واحدة فقط، بل أربع مرات. وقبل ذلك سيكون لدينا عمل طويل، ومشوار أطول من أجل أن نكون "على موجة واحدة"، فالخلاف في الأفكار والرؤى والسياسة يجعلنا على خطّ نار، لكنه كان "المدير" الناجح لهذه العلاقة، وتفوّق عليّ.
آخر مشاريع الشهيد ـــــ رحمة الله عليه ـــــ سلسلة من الدورات الإعلامية لنقل خبرته إلى الصحافيين والمتخصصين في الشأنين الفلسطيني والإسرائيلي. أهم ما عمل عليه "كيفية التعامل مع الإعلام الإسرائيلي". كنت معه شريكاً في الإعداد، والأهم أنني كنت متدرّباً. سعيدٌ أنني حصلت على "شهادة" منه! كرّرها مرتين في بيروت لأهميتها لكنه عمل على تطوير دورات أخرى في كتابة المقالات وتقدير الموقف. وكان يُفترض ـــــ لولا الحرب ـــــ أن يواصل هذا المسار لنقل خبرته الغنية.
كانت أوقاته في بيروت مزدحمة، فلم يبخل بدقيقة واحدة لشرح قضية فلسطين للعالم. أذكر كم كان مرهقاً من السفر لكنه يبذل جهده، إما في اجتماع مهم وإما بمداخلة مفيدة. بل فوجئت كيف كان ينسج العلاقات حتى مع وسائل الإعلام التي لا تدعم المقاومة أو تدّعي أنها على "الحياد"، فيسعى بكل جهد لنقل صوت الشعب الفلسطيني إلى هناك، من دون كلل أو ملل. هذا إلى جانب جهوده الكبيرة مع مراكز الأبحاث.
أما علاقة الرفاتي بـ"الميادين"، وهو الضيف شبه الدائم في تغطياتها المستمرة والمكثّفة وحتى تقارير مراسليها، فهي قصة تروى فصولها في موضوع مستقل. لكن يمكن التذكير ببعض المحطات الفاصلة، وأبرزها صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، فقد كان أول من زفّ البشرى لقسم المقابلات في التلفزيون، وأول المبادرين إلى الكتابة في الموقع. لقد كان بين الأنشط والأكثر حرصاً.
بدأ الرفاتي في شباط/فبراير 2018 كتاباته في "الميادين" ليختمها في الشهر نفسه بمقالة بعنوان: "ماذا فقد جيش الكيان في طوفان الأقصى؟". لمّا قرأت العنوان، تبادر إلى ذهني سؤال على الوزن نفسه: ماذا فقدنا برحيلك، يا أيمن؟ لكن الجواب يأتي في هذا التزامن في نشر آخر موضوعاته مع لحظة رحيله، ليقول إنه باقٍ كما كلماته.
حروف وداع
إلى أيمن،
تحاصرني بكلّ شيء:
بكلماتك، بابتسامتك، بإصرارك وإلحاحك الدائبين،
بالهدايا التي أغرقتني بها،
بكل كيلوغرامات القهوة الفلسطينية التي حملتها معك عربون محبّة إلى كثيرين،
بكلمات شكرك التي ودّعتني وأخجلتني بها، بصدقك ووفائك المنقطعَي النظير،
بالذاكرة المحتشدة بالمواقف الكثيرة، وحتى بالنقاشات الحادة التي لم تقطع من حبل الودّ خيطاً،
بركعتَي الفجر اللتين صليناهما وقرأت فيهما من سورة يوسف آيات بيّنات بصوت جميل،
بتراب جنوب لبنان المقاتل وأنفاقه حيث وطأت قدماك،
بمليتا وجبل صافي، بالضاحية الجنوبية وبروضة الشهيدين،
بكلّ الأسرار التي قد يأتي يوم وتقال... أو تبقى شهيدة معك.