ثورة عبد الناصر الوحدوية
لم تكن الثورة المصرية التي حدثت في 23 تمّوز/ يوليو عام 1952، مُجرَّد حركة انقلابية من داخل الجيش المصري أنهت النظام المَلَكي، أو كانت بلا أهداف، ولكنها كانت حركة عسكرية وطنية تحوَّلت إلى ثورةٍ شعبيةٍ كبرى، أسهمت في تغيير وجه الحياة في مصر والعالم العربي والإسلامي، وكل دول العالم الثالث.
قامت الثورة مُعلنة ستة أهداف رئيسة، وهي :- "القضاء على الإقطاع - القضاء على الاستعمار وأعوانه - القضاء على سيطرة رأس المال على الحُكم - إقامة حياة ديمقراطية سليمة - إقامة جيش وطني قوي - إقامة عدالة اجتماعية"، ونحاول رَصْدَ ما حقَّقته الثورة من أهدافٍ، وكيف تراجعت مصر ما بعد عبد الناصر عنها، فالهدف الأول كان القضاء على الإقطاع، وهو ما تحقّق سريعاً، قامت الثورة يوم 23 تمّوز/ يوليو، ونجحت عندما طردت الملك "فاروق الأول" بعدها بثلاثة أيّام لا غير، وأصدرت بعد أقل من شهرين أي يوم 9 أيلول/ سبتمبر 1952 قانون الإصلاح الزراعي وتحديد ملكية الأغنياء من الأرض الزراعية إلى 100 فدّان فقط، بعد كانت الملكية بآلاف الأفدنة للفرد الواحد، ثم توزيع تلك الأرض على صِغار الفلّاحين، وكان قانون الإصلاح الزراعي هو الذي غيَّر حركة الضبّاط الثائِرين لتكون ثورة شعبية حقيقية، وقد ناهض قانون "الإصلاح الزراعي" الإقطاعيّون الأغنياء، كما تحالف ضدّه فريقان لا يجتمعان، اليمين الليبرالي مُتمثّلاً في "حزب الوفد" الذي كان يرى عدم مُصادرة الأراضي، ويرى تصاعُد ضرائب الأرض، واليمين الديني مُتمثّلاً في جماعة "الإخوان المسلمين" التي ترى أن الإسلام يُحرِّم المُصادَرة، وفي كل الأحوال أسهم قانون "الإصلاح الزراعي" في بداية نهاية تعاون الجماعة والضبّاط، وبالقانون نفسه تمّ تحقيق قَدْرٍ كبيرٍ ورائع من الهدف السادس للثورة، "العدالة الاجتماعية"، فقد أحدث نهضة فائِقة في كل نواحي الحياة.
وتعتبر الثورة هي العصر الذهبي للطبقة المصرية العامِلة المطحونة، التي عانت أشدّ المُعاناة من الظلم الاجتماعي، ولكنّ الثورة التي كانت تقود الدولة أرست بعض القرارات المصرية: - "تعليم مجّاني لكل أبناء الشعب – بناء وحدات اجتماعية في القرى فيها مستشفى ومدرسة وساحة رياضية - مصَّرت وأممَّت الثورة عام 1961 التجارة والصناعة التي استأثر بها الأجانب - إلغاء الطبقات بين الشعب المصري"، وأصبح الفقراء منهم قُضاة وأساتذة جامعة وسفراء ووزراء وأطباء ومحامين وتغيَّرت البنية الاجتماعية للمجتمع المصري، قضت على معاملة العمال كسلعٍ تُباع وتُشترى ويخضع ثمنها للمُضاربة في سوق العمل، وطبّقت قانون المعاشات، وأنشأت مكاتب التنسيق لطلبة المدارس الثانوية العامّة لتحقيق المُساواة بين الناجحين لدخول الجامعات، حسب مجموع الدرجات، وليس حسب الدين أو الغنى والفقر، فكانت طفرة بكل المقاييس، ومن ثمّ لم تقم تظاهرة واحدة تطالب بالعدالة أو أية مطالب اقتصادية فئوية في عهد "عبد الناصر"، وكل تلك العدالة أسهمت في القضاء على سيطرة رأس المال على الحُكم، أو الهدف الثالث للثورة، وقد تحقَّق بالفعل هذا الهدف الغالي، لأنه لا يمكن لحُكمٍ رشيد أن يغفل عن سيطرة المال على القرار السياسي.
وقامت الثورة بتوقيع اتفاقية الجلاء عام 1954، وأنهت الوجود البريطاني الاستعماري، قال "عبد الناصر كلمته المشهورة "على الاستعمار الغاشِم أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل"، ورَحَل بالفعل، رَحل مُضطراً، على أمل العودة من جديد، ومن أجل حماية الاستقلال كان لابدّ من بناء "جيش وطني" قوي، وهو الهدف الخامس للثورة، يكون قوياً يتصدَّي لأعداء الداخل والخارج على السواء، أو الاستعمار العالمي وأعوانه في الداخل، فقد بدأت الثورة منذ نجاحها بالتصدّي لخطر الاستعمار، قام الرئيس "جمال عبد الناصر" بتغيير التحالفات وإنهاء احتكار السلاح، فعقد صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955 ، ثم الإسهام في خلق "دول عدم الانحياز" في مؤتمر "باندونغ" الشهير في أندونيسيا عام 1955 بقيادة "ناصر ونهرو الهندي وتيتو اليوغسلافي"، وقد نمَت حركة عدم الانحياز سريعاً بعد انتصار مصر على العدوان الثلاثي، فانضمّت إليها دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وتمكّنت الحركة من إجبار منظمة "الأمم المتحدة" اعتبار عام 1960 عام استقلال القارّة الأفريقية، وتمّ تحرّر دول القارّة السمراء على يد قادة تحرير لأوطانهم، عاشوا مدعومين من مصر الثائِرة منهم "نكروما وباتريس لومومبا ونيلسون مانديلا، والأخير حضَر إلى القاهرة سيراً على الأقدام ليلتقي بالرئيس "عبد الناصر" ليشعل ثورة الجنوب إفريقيين، واستقبلت مصر الثائِر "غيفارا"، فضلاً عن أن مصر ساعدت النشاط العروبي الكبير في الثورات الجزائرية واليمنية والعراقية، وتوحّدت الدولتان مصر وسوريا داخل إطار "الجمهورية العربية المتحدة" عام 1958 ، ولكن تحالف ضدّها الاستعمار الغربي والرجعية العربية وأنهت الوحدة عام 1961، ولكن ظلّ الشعور القومي الوحدوي قائماً، دافعت مصر عن حق الصومال في تقرير مصيره، وساهمت الثورة في استقلال الكويت، وقامت بدعم الثورة العراقية، كما ساعدت مصر اليمن الجنوبي في ثورته ضد المحتل، وساندت الثورة أيضاً الشعب الليبي في ثورته، ودعمت الثورة حركة التحرّر في تونس والجزائر والمغرب حتى الاستقلال، لا ننسى قضية "فلسطين" التي كانت محور وبؤرة اهتمام الثورة المصرية وجمال عبد الناصر نفسه، ونستطيع التأكيد على ثورة تمّوز|يوليو كانت ردّة فعل على هزيمة 1948، وقال "عبد الناصر" إن الوحدة العربية هي السبيل الأسمى في مُحاربة الصهيونية والانتصار عليها وعلى أعوانها المُستعمرين في الخارج، والمُنظّرين للثقافة الغربية في الداخل.
يمكن خلال العرض السابق، نجد أن الثورة المصرية حقَّقت ونجحت بكفاءة في خمسة أهداف من الستّة المُعلنة، أمّا الهدف الرابع فهو "إقامة حياة ديمقراطية سليمة"، هو الهدف الدائم الذي يستغلّه كل المعارضين من الإخوان المسلمين والرجعيين في الساحة العربية، للهجوم الشَرِس ضد الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر"، وهو الذي قال في كتاب "الميثاق الوطني" :- "إن العبيد قادرون على حمل الأحجار، أمّا الأحرار فهم وحدهم القادرون على التحليق إلى آفاق النجوم" ، كان "ناصر" يعتقد أن الديمقراطية في العصر المَلَكي هي ديمقراطية النصف في المائة، وكان يريد تحقيق تنوير ديني عربي قومي عالمي، فأنشأ إذاعة القرآن الكريم، وأصدر مجلة "رسالة الإسلام" للتقريب بين "السنّة والشيعة" وساهمت الدولة عام 1965 في بناء "كاتدرائية العبّاسية" للمصريين الأقباط المسيحيين الأرثوذكس، وخلال عصره لم تشهد مصر فتنة طائفية واحدة.
بعد موت الزعيم "عبد الناصر" بدأت الدولة في حصار الرجل إعلامياً وسياسياً، وأُنتِجت أفلام تصوّر الزور في سيرة الرجل خاصة التعذيب في المُعتقلات، وكان الرئيس "أنور السادات" يقول "إنا أمشى على خط عبد الناصر"، فأضاف المصريون إليها ... بأستيكة (ممحاة) أي أنه يسير على خط ناصر بممحاة تزيل ما عمله، والخطير أن التراجُع عن قِيَم الثورة كانت له أثمان فادِحة جداً، فكل أهادف الثورة صارت سراباً، انتهت العدالة الاجتماعية إلى الأبد، وتحالف رجال الأعمال مع السلطة، فتاجروا بأراضي الدولة نفسها وحقّقوا المليارات المسروقة، النظام التعليمي صار طبقياً بكل معنى الكلمة، فانقسم التعليم إلى تدريسٍ بلغاتٍ أجنبية، وتعليم تجريبي وتعليم خاص وتعليم حكومي شعبي، وتراجعت قِيَم المقاومة، ويتعاون العرب مع الكيان الصهيوني، ضد دولة إيران الثائرة المثيرة، وضاعت العدالة الاجتماعية، وتمزَّقت الدول العربية التي كان يريدها عبد الناصر مُقدّمة هزيمة الاستعمار والصهيونية، فلم يتبق من ثورة تمّوز|يوليو سوى الأمل والضوء البعيد أي وحدة بين أية دولتين، هذا على الأقل.