في ذكرى النكبة.. محورا الاعتدال والمقاومة قديمان يتجدّدان
في ذكرى النكبة الفلسطينية، والهزيمة العربية التي بدأت بإعلان بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين يوم 15 أيار/ مايو 1948، وإعلان العصابات الصهيونية قيام الدولة العنصرية، بما يُسمّى اليوم بعيد الاستقلال للكيان الصهيوني، تتجدّد ذكرى المأساة، عندما نعلم أن من أحفاد سبّبوا الهزيمة، هم مَن يتحالفون مع العدو الصهيوني.
في الذكرى 71 نسترجع أحداث الماضي ونقارنها بما يحدث في الحاضر، استشرافاً للمستقبل، في الماضي بعد إعلان قيام الدولة الصهيونية دخلت جيوش ست دول عربية هي:
- المملكة المصرية – المملكة الهاشمية في العراق – المملكة الهاشمية في الأردن – المملكة العربية السعودية – الجمهورية السورية – الجمهورية اللبنانية، وهي دول الطوق للكيان الصهيوني الوليد.
والحقيقة أن النكبة بدأت خلال الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 – 1939، وهي أكبر ثورة بعد ثورة البراق 1929، أي أن الثورات الفلسطينية استمرت وكان الوعي الشعبي الفلسطيني العربي يدرك مبكراً خيوط المؤامرة، وبالتالي يخطئ مَن يصدّق أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود، ولقد كان من الممكن إحباط أية محاولة صهيونية لتأسيس دولتهم، لولا تدخل دول المعتدلين العرب المبكرين، فعندما بدأت بشائر انتصار الثورة، ناشدت الحكومة البريطانية الملك "عبد العزيز آل سعود" وغيره من ملوك العرب للتدخل في تهدئة الفلسطينيين، مقابل الوعد بعدم تناسي حقوقهم، فوجَّه الملك عبد العزيز آل سعود رسالة إلى "اللجنة العربية العليا"، يبعثون فيها، نداءً إلى الفلسطينيين لوقف الإضراب وإنهاء الثورة، وأنها على استعداد للنظر في مقترحاتهم في مصلحة العرب بالنظر اللائق، ثم وردت نداءات أخرى من الملك غازي ملك العراق، والإمام يحيى حميد الدين حاكم اليمن والأمير عبد الله أمير شرقي الأردن، تطالب الفلسطينيين بالإخلاد إلى السكينة اعتماداً على حُسن نوايا صديقتهم بريطانيا، فقبلت اللجنة العربية العليا تلك الوساطة، وأصدرت بياناً دعت فيه إلى إنهاء الإضراب ووقف الثورة، ويُحسب لرئيس الوزراء المصري "مصطفى النحاس"، أنه رفض التوقيع على النداء، وقال : "سأُكتب في سجّل العار لو وقّعت على ذلك النداء"، وكان من الطبيعي أن يقيله الملك المصري"فاروق الأول" لأسباب متعدّدة، منها عدم توقيعه على النداء، وبسبب حُسن نيّة المفتي الفلسطيني "أمين الحسيني"، قام بإرسال برقية بتاريخ 14/ 9/ 1936م للملك عبد العزيز آل سعود، جاء فيها "إن الهيئة العربية العليا وافقت بالإجماع وبكل ارتياح على وساطة جلالتكم وهي لا تزال ترحّب بهذه الوساطة وترجو مؤازرتكم"، وكان هذا هو السبب القوي في إفشال الثورة، وسارعت الوكالة الصهيونية بتهجير اليهود من الشتات، وكانت العصابات الصهيونية تعلم موعد نهاية الانتداب البريطاني، وبالتالي كان الملوك العرب يعلمون الموعد، ولم يكن دخول الحرب عام 1948 إلا تحصيل حاصل، وإبراء للذمّة السياسية للملوك العرب.
ومع مرور الزمن حتى الوقت الحاضر، يمكن تصنيف محور الاعتدال ومحور المقاومة، فالدول العربية الست كانت 4 دول ملكية (معتدلة بمقاييس حاضرنا) هي:
السعودية – مصر – الأردن - العراق، تحوّلت كل من مصر والعراق إلى جمهورية تتخذ النهج القومي للتصدّي للخطر الصهيوني، خاصة مصر الناصرية، وظلت السعودية والأردن في فريق الاعتدال منذ ثورة 1936 وحتى اليوم، أما الدولتان الأخريان اللتان اشتركتا في حرب 1948 سوريا ولبنان، ظلتا محسوبتين على محور المقاومة، حتى الوقت الحاضر، وفي المقابل نجد دولة إيران ضمن فريق الاعتدال الإسلامي خلال حرب النكبة، فقد اعترف الشاه "محمّد رضا بهلوي" بدولة الكيان الصهيوني، أي كانت إيران ضمن محور الاعتدال، ومصر دولة راديكالية ثورية، حتى عام 1979 عندما انتصرت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام "روح الله الخميني" فانضمت مبكراً لمحور المقاومة، وكان لها الدور الأكبر والإيجابي في مساعدة المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين وسوريا، أي تحولت إيران لراديكالية ثورية، واختارت مصر محور الاعتدال، بعد أن عقدت اتفاقية السلام مع الكيان الإسرائيلي عام 1979، ولكنه بقى سلاماً بارداً يشهد عليه اقتحام الشباب للسفارة الصهيونية في القاهرة يوم 9 أيلول|سبتمبر 2011، أي أن الشعب المصري مازال يؤمن أن عدوه الوحيد هو كيان إسرائيل.
لقد ظلت المملكة السعودية ضمن فريق الاعتدال، إن لم يكن فريق الخائنين، لم تطلق السعودية رصاصة ضد الكيان الصهيوني، بل كان تعادي المشروع المقاوم منذ تأسيسها، يكفي القول إن الملك "فيصل بن عبد العزيز" أرسل رسالة إلى الرئيس الأميركي "ليندون جونسون" ( وهي وثيقة حملت تاريخ 27 ديسمبر 1966 الموافق 15 رمضان 1386 ، حسب كتاب "كتاب جمال حمدان" "عقود من الخيبات" الصادر عن دار "بيسان للنشر – بيروت – 1995، وموقع السيّد "سامي شرف" سكرتير الرئيس "جمال عبد الناصر" للمعلومات، يقول فيها الملك فيصل "من كل ما تقدم يا فخامة الرئيس ، ومما عرضناه بإيجاز يتبين لكم أن مصر هي العدو الأكبر لنا جميعاً، وأن هذا العدو إن تُرك يحرّض ويدعم الأعداء عسكرياً وإعلامياً، فلن يأتي عام 1970 – كما قال الخبير في إدارتكم السيّد كيرميت روزفلت – وعرشنا ومصالحنا في الوجود، لذلك فأنني أبارك، ما سبق للخبراء الأميركان في مملكتنا، أن اقترحوه، لأتقدّم بالاقتراحات التالية... وعدد الاقتراحات، ومنها ضرب مصر وإسقاط الرئيس "جمال عبد الناصر" شخصياً مع كل نظامه.
من هذا المنظور، يمكن الفرز الرأسي للفريقين الاعتدالي والمقاوم، فنجد أن رئاسة فريق المعتدلين بقيادة الدولة السعودية مازال كما هو، انضمّت إليه دول الخليج المتناثرة، والأردن عقد اتفاقية "وادي عربة" مع إسرائيل عام 1994، وفي المقابل نرى فريق المقاومين مازال كما هو في سوريا ولبنان معهما إيران، ويخوض اليوم فريق المعتدلين الجُدد حرباً ضروسة ضد محور المقاومة، تحالف جديد بقيادة أميركا والدولة الصهيونية، محوره السعودية ودول الخليج، والبوارج الأميركية تدخل الخليج، للضغط المتوالي على دولة المقاومة الإيرانية، ثم قبض المليارات من دول الخليج، وهو ثمن الحماية المعتادة.
ورغم كل تلك الضغوط والتحالفات الاستعمارية العربية، نجد أن فريق المقاومة حقّق نجاحات باهرة خلال العقود الثلاثة الماضية، أهمها تحقيق توازن الرعب مع الكيان الصهيوني متمثلاً في "إيران" و"حزب الله" و"المقاومة الإسلامية في فلسطين"، فقد انتصر حزب الله على إسرائيل مرتين عامي 2000 و2006، وصار قطاع غزّة شبه دولة رغم قسوة الحصار، وثورته مشتعلة جسورة كما حقّقت سوريا انتصاراً في أكثر الحروب ضراوة في عصرها الحديث، والعراق يسير على طريق العودة لمحور المقاومة، مع التأكيد على أن الكيان الصهيوني انحسر ولن يتمدّد جغرافياً، رغم تفوّقه السياسي والعسكري، بسبب الفوضى الضاربة في ربوع الدول العربية.
كثيراً ما يُعيد التاريخ بعض أحداثه، مع اختلاف الأشخاص، وهو ما حدث ويحدث من حزب الاعتدال القديم الذي جاء بالنكبة، ويريد الاعتدال الجديد نكبة جديدة، ولكن الحق لا بد من أن ينتصر في النهاية، فلا بد من أن يبقى الأمل قائماً.