فرص الحرب والسلام في سوريا تستقر في إدلب
الراجِح أن الولايات المتحدة الأميركية ومَن معها، تريد تثبيت مناطق نفوذ في أقاصي شرق وشمال سوريا. لا يخفي المبعوث الأميركي جيمس جيفري المُكلّف بالأزمة السورية، أن مهمّته تقتضي ذلك، فقد أكَّد قبل أيام، أن بلاده ترفض أيَّ عملٍ عسكري ضد إدلب.
تصريحٍ آخر إنه يؤيِّد إقامة منطقة آمِنة على الحدود السورية التركية. وفي تصريحاتٍ سابقةٍ أوضح أنه لا يريد فتحَ الحدود العراقية ــــــــ السورية ومعها بطبيعة الحال التواصل بين طهران وبغداد ودمشق براً.
يقول جيفري إنه يرغب في تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254 وأن تُغادر إيران سوريا. ويؤكِّد أن بلاده لا تريد المُشاركة في إعادة إعمار ما دمَّرته الحرب وتُنسِّق مع الأردن والدول الأخرى كي لا يعود اللاجئون السوريون إلى بلادهم. وتعمل واشنطن بطبيعة الحال على بقاء سوريا خارج الجامعة العربية. وكل ذلك من أجل "إحراز تقدّمٍ في العملية السياسة" يُسمِّيه آخرون "الانتقال السياسي" أي تغيّر نظام الحُكم ، وبالتالي مواصلة الضغط والحصار وتفعيل المشاكل التموينية بالضروريات للوصول إلى الهدف المذكور.
وإذ يظهرُ بَوْنٌ شاسِع بين أنقرة وواشنطن حول مصير الحُكم الذاتي الأميركي الموعود للكرد، تجتهد الإدارة الأميركية في ضبط الصراع بين الطرفين تحت سقف مُعيّن وتنظّم المشهد العام في الشرق وأقصى الشمال السوري ضد الرئيس الأسد وحلفائه الإيرانيين واللبنانيين والعراقيين. وما يصحّ على تركيا و"قَسَدَ" يصحّ على الدوحة والرياض اللتين "تتناتفان بالشعر" حول كل شيء تقريباً إلا مُناصبة العداء للرئيس السوري، وتخطب وسائل إعلامهما بجرأة نادرة عن "الديمقراطية" و" العدالة الانتقالية" و"الإصلاحات السياسية" في سوريا وتُردّدُ بِبَلاَدةٍ حكاية "النظام الذي يقتل شعبه" وكذا مذا...
وما ترسمه أميركا لتلك المنطقة السورية، تُحاكيه تركيا على طريقتها. هي تُرخي الحبل للمنظمات المسلحة في إدلب (المُصنّفة إرهابية في القانون الدولي) وتغطي مَن يرفض منها الدوريات الروسية في المنطقة المُحايدة، وإذ تطلب موسكو تفسيراً من الأتراك عن هذا الخرق لاتفاق أيلول/ سبتمبر 2018 يزعم السيّد أردوغان أنه بصَدَد الضغط على المسلحين للسماح بمرورٍ آمِنٍ لتلك الدوريات. وهذا يعني أن هناك لعبة كلاسيكية يلعبها الرئيس التركي لاستنزاف الجيش السوري ، وترقّب الآثار السلبية للاحتجاجات المعيشية وبالتالي إعادة تنظيم الحرب السورية بكلفة أقل بشرياً واقتصادياً ، وحرمان الرئيس الأسد من توظيف إنجازاته العسكرية في الجنوب والوسط السوري وبعض الشرق والشمال، من أجل طيّ صفحة الحرب بأقصى سرعةٍ ممكنة والإفادة من موارد البلاد في إعادة الإعمار والنهوض مُجدَّداً.
إن الدخول الإسرائيلي على خط الأزمة السورية بوسائل مختلفة لا يخرج عن السياق المُشار إليه. إن مَنْح الجولان المحتل لنتنياهو يندرجُ في هذا السياق ، الأمر الذي يوحي بأن الأطراف الدولية والأقليمية التي شَنّتْ الحرب على سوريا لا تريدُ الإعتراف بهزيمتها ، وأنها غيَّرت استراتيجيتها من تحطيم الدولة السورية وتفتيت الفضاء السوري الاندماجي الواحد، بالوسائل العسكرية والمالية والسياسية والأخلاقية إلى فرض طَوْقٍ على الانتصار السوري في الحرب والحؤول دون تحويله إلى انتصار سياسي لسوريا الموحَّدة.
تنطوي هذه الإستراتيجية على توظيف الآثار الإقتصادية السلبية للحصار الذي تعاني منه روسيا وسوريا وإيران وحزب الله ، والإفادة من ضعف هامِش المناورة لدى هذه الأطراف في إعادة اللاجئين السوريين. وتركِّز الاستراتيجية على الوقت الذي لا يلعب لصالح الحكومة السورية ، فكل تأخّر في استعادة إدلب يصبّ الماء في طاحونة واشنطن وجماعتها ، وبالتالي يؤدّي إلى خلق أمر واقع شديد السوء يشدّ سوريا إلى الأسفل ويحمل في طيّاته خطر تفتيتها.
تبقى إشارة إلى أن واشنطن تحاول الإفادة في استراتيجيتها الجديدة من الموقع الروسي الخاص في تحالف الدفاع عن سوريا. فموسكو تريد الحفاظ على أمن إسرائيل تماماً كواشنطن ولديها أيضاً حساباتها الخاصة وسياساتها الخاصة مع واشنطن والمملكة العربية السعودية وقطر وتركيا ، ناهيك عن أنها لا تتضرَّر من الضغط الدولي على إيران كي تنسحب من سوريا وكل ذلك يغري التحالف الدولي بالرهان على تردّد روسي في حسم معركة إدلب.
يقودنا ما سبق إلى الاستنتاجات التالية:
أولاً ـــــ لا يلعب الوقت لصالح الرئيس الأسد في تجميد الأوضاع في الشرق وأقصى الشمال السوري، وبالتالي فإن حسم معركة إدلب يمكن أن يضمن وحده نهاية تامة للحرب السورية.
ثانياً ـــــ تمارس واشنطن عملية "بَلْف" كبيرة في هذه اللعبة فهي مُصمِّمة على الانسحاب لكنها تناور باستخدام القوّة ، في حين ألا مصلحة لها أبداً في النزول على الأرض السورية. والراجِح أن تتراجع إذا ما وضعت أمام حسابات جدية وفق معادلة الحرب المفتوحة ، أو الانسحاب من الأرض السورية كي لا نقول اللعبة السورية. إن التردّد الأميركي في التدخّل العسكري في فنزويلا يُبيّن بعد المثال الكوري الشمالي أن واشنطن مع ترامب لا تحتفظ بقلب الأسد وبالتالي لا يعوَّل عليها في سوريا.
ثالثاً ـــــ الحسابات الروسية في هذه اللعبة مفتوحة ، وبالتالي يمكن لموسكو أن ترضى بالتصميم السوري على تحرير إدلب ، ويمكن أيضاً أن تتعايش مع ال "ستاتيكو" الراهِن الذي تلعب من خلاله دور الوسيط.
رابعاً ـــــ إن تحرير إدلب من سيطرة المسلحين يحرم التحالف الدولي المناهِض لسوريا من هامشٍ كبيرٍ للمناورة ، ويطرح أسئلة صعبة حول مصيره بل ربما يشكّل ضربة قاصِمة تدفع باتجاه حلّه.
خامساً ـــــ يمكن لتحرير المدينة أن يُعجِّل في عودة سوريا إلى الجامعة العربية وليس العكس. فهي تبعث الأمل في أوساط المُعتدين على سوريا من أن "تغيير النظام" ممكن بالضغط والحصار والعمليات العسكرية المحدودة.
سادساً ـــــ إن موقفاً سورياً شجاعاً في إدلب يمكن أن يحمل الكرد على التفكير مليّاً بحماية أنفسهم عبر علاقات وثيقة مع الدولة السورية. فهم سيكتشفون بعد سقوط المدينة ، كما اكتشفوا في فشل الإستفتاء على الإستقلال في كردستان العراق ، إن الموقف الأميركي في هذه المنطقة تكتيكي لخدمة إسرائيل والمملكة العربية السعودية ، وبالتالي لا يضمرُ رهاناً استراتيجياً على الكرد.
سابعاً ـــــ يمكن لتحرير إدلبْ أن يُعيد بناء العلاقات الإيرانية ــــــ التركية على قاعدة مختلفة وليس على لعبة تركية مكشوفة لفرض أمرٍ واقعٍ في أقصى الشرق والشمال السوري. لقد رأينا ذلك في مناسباتٍ عديدةٍ من أحياء حمص إلى غوطة دمشق أو حلب ، حيث كانت الخطوط التركية الحمر ترتسم وتهوي كورق الخريف ولا شيء يوحي أنها سوف تحمل مصيراً أفضل في إدلب.