أبعاد الدور الأميركي الخليجي الجديد في ليبيا
في تطوّر لافِت للنظر، تدخّلت الولايات المتحدة الأميركية في الشأن الليبي، بعد حيادها أو تغافلها في القضية الليبية، فقد كشف البيت الأبيض في بيان يوم الجمعة 19 نيسان/ إبريل 2019، أن الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" اتصل هاتفياً بالقائد العسكري الليبي المشير "خليفة حفتر" يوم الإثنين 15 نيسان/ أبريل، وأنهما تناولا "الجهود الجارية لمكافحة الإرهاب، والحاجة لإحلال السلام والاستقرار في ليبيا.. وأن الرئيس الأميركي حسب البيان، أقرّ بدور المشير "حفتر" الجوهري في مكافحة الإرهاب، وتأمين موارد ليبيا النفطية، وأنهما تناولا رؤية مشتركة لانتقال ليبيا إلى نظام سياسي ديمقراطي مستقر"، وهو تطوّر يكشف أبعاد أميركية متعدّدة في الشأن الليبي.
نلاحظ في البداية أن أميركا وروسيا رفضتا تأييد قرار لمجلس الأمن، يدعو إلى وقف إطلاق النار في ليبيا بعد أن قرّر الجيش الليبي الذي يقوده "حفتر" دخول العاصمة "طرابلس" وطرد قوات حكومة "الوفاق" المعترف بها دولياً، بل إن حفتر طلب القبض على "فائز السرّاج" وباقي حكومته لمحاكمتهم، في إشارة على ثقته العالية بالانتصار، والرفض الروسي الأميركي لا يعني توافق الدولتين، ولكنه صراع معروف، خاصة أن روسيا خسرت بسقوط نظام العقيد "القذافي"، ولكنها ربحت وعوّضت خسارتها في الملف السوري وهزمت الولايات المتحدة، ومن هنا يأتي التوافق على رفض قرار مجلس الأمن، كلُّ حسب رؤيته السياسية، ولكنه على حساب الشعب الليبي، الذي لا يستطيع الاستقرار في وسط نزاعات القادة المسلّحين.
ولكن وقبل الحديث عن أبعاد الدور الأميركي، نجد أن الحقيقة المؤلمة أن ما يجري في ليبيا اليوم، هو حصيلة التدخّل الغربي الأوروبي والإقليمي في شؤون هذا البلد، الذي تعصف به الفوضى والاقتتال منذ عام 2011، عندما أسقطت قوات حلف "الناتو" بمساعدة دول إقليمية مثل السعودية وقطر وتركيا نظام العقيد "معمّر القذافي"، فتركيا تدرّب الإرهابيين وتنقلهم إلى الشواطئ الليبية، والسعودية والإمارات وقطر تموّل جماعات التكفيريين والإخوان المسلمين في الغرب الليبي، فإن ما حدث منها من دمار وحرب أهلية في سوريا، يتكرّر منها في ليبيا، ولكن هذا لا ينطبق على الموقف المصري، لأن ليبيا جار جغرافي لمصر، ولها حدود صحراوية تصل لأكثر من ألف كيلومترا، ولأول مرة في التاريخ الممتد يتهدّد الأمن القومي المصري من الغرب أو من الجنوب، دائماً الحملات الاستعمارية تأتي من الشرق حيث فلسطين أو من الشمال حيث البحر الأبيض المتوسّط، وبعد سقوط نظام القذافي دخل الإرهابيون إلى الغرب المصري بكثافة منقطعة النظير، فكثير من الدواعش دخلوا ونفّذوا عمليات إرهابية في منطقة "الواحات البحرية" وتتصدّى لها القوات المصرية، وكان أكثرها دموية، عندما قام التكفيريون الدواعش بقتل 21 مصرياً قبطياً عام 2015، فقام الطيران المصري بضرب قواعدهم انتقاماً للشهداء، فمن مصلحة الدولة المصرية تأمين حدودها الغربية، بالتعاون والدعم مع المشير "حفتر"، وهو ما يختلف عن الرؤية السعودية أو الإماراتية، فالسعودية مثلاً تدعم المشير حفتر، نكاية في قطر التي هي في خلاف دائم معها، وتركيا بعد أن كشفت علاقة وليّ العهد السعودي "محمّد بن سلمان بقتل الصحافي "جمال خاشقجي"، أي أنه دعم انتقامي أكثر منها حرصاً على مصلحة ليبيا، ونجد أن زيارة "المشير حفتر" للسعودية والإمارات أواخر شهر آذار|مارس 2019 ، لأنه يسعى لحشد وتأييد الرأي العربي في مسألة دخول قواته لطرابلس في ضوء حال التوافق والانسجام في الموقف العربي لمصر والسعودية والإمارات ودعمهم للمؤسّسة العسكرية الليبية، لأن حفتر يستثمر علاقات السعودية بالولايات المتحدة الأميركية، لتحييدها ثمّ الحصول على دعمها، وذلك من خلال الدخول في مجريات الأحداث وأعرب العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، للمشير "حفتر"، عن حرص المملكة على أمن واستقرار ليبيا، فالسعودية تريد عودة أميركا للملف الليبي، لأن الأخيرة ظلت بعيدة نسبياً عن الملف الشائك، وتركت إيطاليا وفرنسا تنفردان بالقضية الليبية، بالإضافة إلى مصر بطبيعة الحال، ولكن الولايات المتحدة الأميركية تعود بقوّة للمشهد الليبي، بعد سنوات من التغافل، وبشكل يتجاوز النطاق المحدود والتقليدي لمكافحة الإرهاب في العُرف الأميركي، وتمتد العودة إلى تفاصيل العملية الليبية السياسية كلها، ويُعدّ هذا الاهتمام الأميركي المُتزايد بليبيا أمراً غير مألوف بالنسبة لإدارة ترامب، خاصة بعد التصريح الشهير للرئيس الأميركي خلال لقائه مع رئيس الوزراء الإيطالي السابق "باولو جينتلوني"، في 17 نيسان|أبريل أبريل 2017، عندما كان الأخير يريد دورا أميركيا حاسماً، لتحقيق الاستقرار في ليبيا، وكان رد "ترامب"، بأنه لا يرى دوراً لأميركا في ليبيا، وقال نصّا ً: "أعتقد أن الولايات المتحدة تقوم حالياً بالعديد من الأدوار، بما فيه الكفاية، في أماكن مختلفة من العالم" ، وبالتالي تغافل "ترامب" عن رؤية مؤتمر "الصخيرات" المغربية الذي عُقد يوم 17 كانون الثاني/ديسمبر عام 2015، رغم أنه الاتفاق الذي وافق عليه الشركاء الليبيون، ولكنهم لم ينفّذوه على أرض الواقع وظلّوا في خلافاتهم العسكرية قبل السياسية وتوجّه حفتر بشن الحرب على ميليشيات "فائز السرّاج".
خلاصة القول، توجد ثمة أسباب لعودة الاهتمام الأميركي بالشأن الليبي، منها ملف مكافحة الإرهاب، وكون ليبيا من الدول المرشّحة بقوّة، أن ينتقل إليها عناصر من الدواعش الإرهابيين الهاربين من سوريا، وليبيا الواسعة مجال خصب لانتشار الإرهابيين، ربما ينتقلون منها لتنفيذ هجماتهم في أوروبا، والإرهاب بطبيعة الحال يؤثر على سيولة تصدير النفط الليبي للخارج عند احتدام المعارك حولها، وسبب آخر، وهو أنه لا يمكن الفصل بين الصراع الليبي بالتصعيد الأميركي ضد إيران، وهي المتعلّقة بأسعار النفط، وذلك عقب العقوبات الأميركية المتصاعدة المفروضة على إيران، وترغب الولايات المتحدة في استقرار عمل المؤسّسات النفطية في ليبيا، وزيادة معدّلاتها بشكل تدريجي، بما يحقّق لأميركا انخفاض أسعر النفط، ليكون النفط الليبي تعويضاً عن النقص في النفط الإيراني، ومن ثمّ تترك أميركا والدول الخليجية الفرصة لحفتر ليسيطر على الدولة بأكملها، خاصة بعد أن علمنا أن لأميركا قوات ولو محدودة في طرابلس، قامت القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا "أفريكوم" بإجلائهم يوم الأحد 7 نيسان|أبريل 2019، بعد تحرّك قوات المشير "خليفة حفتر" نحو العاصمة "طرابلس"، وهو يؤكّد تخلّي أميركا عن أيّ حليف لها في ليبيا، مثلما تخلّفت عن نصرة حليفها "القوات السورية الديمقراطية"، ومن الأسباب التي نراها داعية للعودة الأميركية في الشأن الليبي، هو الخسارة الفادحة وهزيمة أميركا في الملف السوري، وكذلك في إطار التنافس مع دور روسيا المتمدّد في أفريقيا والمنطقة العربية برمّتها، فيرى "ترامب" أن السيطرة الأميركية على الملف الليبي من شأنه سدّ المنافذ أمام أية محاولات روسية لممارسة دور فاعِل في ليبيا، هذا فضلاً عن التنافُس مع إيطاليا وفرنسا، ثم التأثير الألماني على ملف الهجرة غير الشرعية وسياسات مكافحتها، وهو ما يجعلها على تماس مع الشأن الليبي، لاسيما مع دخول الصراع السوري في مراحله الأخيرة، وانتصار الدولة السورية.
هذه بعض أسباب جعلت إدارة الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" تتخلّى عن حيادها المؤقّت والدعم الخفّي لحكومة "الوفاق الليبي"، وهي تتّفق من قبل حول رؤيتها لدعم "الجزائر" و"السودان"، الدولتان اللتان تعيشان ربيعاً عربياً متأخراً، ولكنه في النهاية سيكون خريفاً بائساً، طالما تدخّلت أميركا على خط العودة لميراثها الاستعماري لخدمة المشروع الخليجي الصهيوني، وهو أمر معروف للعامة قبل النُخَب العربية، التي دائماً ما تضرّ أكثر مما تنفع... حفظ الله ليبيا من شرور أشقائها قبل غرور أعدائها..